الصفحة الرئيسية  |  البرنامج   |   المشاركين  |  الأخبار |   الكلمات   |   ألبوم الصور   |  الفيديو   |  في الصحافة   |   مواقع مهمة   |  اتصل بنا
   

العنوان: نحو صياغة مشروع ديني موحد ضد التجديف والإساءة للمقدسات الدينية من خلال التواصل الاجتماعي
الأستاذ الدّكـتور عبد القادر بـخوش
نائب رئيس جامعة الأمير عبد القادر .قسنطينة. الجزائر

تمهيد :
إن التطور الهائل في تكنولوجيا الاتصالات ووسائل الإعلام اختزل الفوارق بين الزمان والمكان،ففي عصر الانترنت والتواصل الاجتماعي تشكل مجتمع إلكــــــــــتروني على شكـــــــــــــل مجتمع حقيقي حيث اجتذبت شبكة التواصل الاجتماعي فايس بوك الشهيرة لوحدها أكثر من 750 مليون مستــخدم متجاوزة تعداد سكان دول قارة أوروبا مجتمعة ،إننا نشهد نشوء مجتمع ذي نمط جديد يتجاوز فــيه الكيان القومي والنسيج المتجانس للمجتمع التقليدي .
ليس من شك أن الإنسان اجتماعي بطبعه، مجبول بفطرته على التــــــــــــــــــــواصل مع محــــــيطه الإنســــــــاني والاجتماعي، والفطرة السليمة تمجٌ الانعزال التام، وتستهجنُ الانطـــواء. في كل مراحل التاريخ كـــــــــــــان هناك تواصل وحوار ، من أجل ذلك أخذت أساليب التواصل أنساقا وأطيافا مــــختلفة عبر التـــــــــــاريخ الإنساني.
وإذا كان الحوار مبدأ دينيا ، فالتواصل والتعارف بين الأمم والشعوب يــــــــعد مقصــــــــــــــــدا إلاهــــــــــــــيا في الإسلام مادامت حكمة الله قد اقتضت اختلاف الناس ،لذلك جاءت النصوص المقدســــــــــة تعــــــضد هذا الأمر وتدعو إليه، و ليس أدل من ذلك ما ورد في القرآن الكريم في قوله تعال( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَـــــكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ الـــلَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)1.
إن التواصل بين الشعوب هو نزعــــــــــة إنســـــــــــــــانية أصيلة وحركة ثقافــــية متــــواصلة ووسيــــــلة فعـــــّــــــــــالة للتفــــاعل الاجتماعي الجاد، تتطلع إلى تعزيز روابط التفاهم والتقارب والتعارف بيــن بـــــــــــــني الـــــبشر، لذلك يُعرف الاتصال الاجتماعي عادة بالاحتكاك المتبادل بين الأفراد بعضهم مع بعـــــــــــــض، هذا الاحتكـــــاك هو نــــــوع من التعارف الاجتماعي يتم عن طريق وسائل الإعلام و الاتصال المخــــتلفة التي تتولى تعميق الصلات الاجتماعية وتنميتها.
إن التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدين فهو سلوك حضاري عندما يوظف في تجاوز جميع مظاهر العداء في المواقف وفي التعبير عن الآراء ،والتسامي بالاختلاف من مزالق الانفعالية المفعــــــمة بـمشاعر التعصب المقيت إلى تقوية وشائج التعاون في كل شأن يهم البشرية في حاضرها ومستقبلها ، وترسيخ قيم التسامح والتعاون بين الناس.وهو سلوك مدمر له آثاره السلبية عندما يكون مَعبرا لإثارة النزعات العنصرية وإشاعة ثقافة الحقد والضغينة.
ويمكن القول بأن الظاهرة الدينية تأتي في الذروة من بين موضوعات كثـــــــــيرة يــــدور بشأنها التـــــــــــحاور والمناظرة في التواصل الاجتماعي ، وهي قضية محــــفوفة بالمخاطر إذا ساء استخدامها.يبقى المــــــطلـــــب ملحا في تطوير سبل التواصل والحوار بين مختلف معتنقي الديانات والحضارات من أجل تحقيق الأمن والسلام في الأرض، وهذا يتأتى بالنظر إلى تعدد الحضارات والديانات نظرة مُعمّقة وتوصيــــــــــفا شاملا لإمكانات اللقاء. مُهمّة كبرى بهذا الحجم تـــستدعي إخضاعها لمحكّ التنظير الدّيني الهادف الــــــــــذي ينأى عن الأغراض الجدلية المتشنجة أو الدعائية الإشهارية.
لذا يمكن التساؤل عن كيفية صــــــياغة مشـــروع ديني مُوحـــــــــــــد يُشــــجّب كــــــل التصـــــرفات التي تــــُسيء للمقدّسات الدينية مع كل التـــــــأويلات و الاختــــلافات الموجودة بين الأديان ،ناهيــــك عن الصراعات العنيفة التي اشتعلت فيما بينها عبر مراحل التاريخ والتي ،مافتئ أعـــــــــداء التواصل الدّيني استــــــــحضارها لإذكاء روح العداء والتعصب .
ليس من شأننا التّهوين من آثار هذه الصّراعات وما خلّفته من مآسي أو القفز على أحداثها الجسام، ولكن لا يمكن بأي حال من الأحوال التهويل من شأنـــــــــــها حتى تُعيـــــــــــــقنا عــــــــن أداء مهــــــــمـــــــتنا ،وهذا الطــــــــــريق محفوف بالمخاطر والصعوبات والعقبات ، وقضـــــــــــــية إزالتــــــــها تــــــــحتـــاج إلى تضـــــــــــافر جمــــــــــــيع الجـــــهود لأبنــاء الديانات المختلفة الذين يجمعهم مصير مشترك ، و هي بـمثابة معالـم لخريطة الــطريق نــــــــــأمل أن تــُعنى بالعناية والبحث من قبل علماء الأديان المختلفة لتحقيق ما نصبو إليه.
أولا / أهمية الوازع الديني : يُــــــــــــمكن أن نتساءل هنا لـماذا نتــــطلع إلى صياغة مشروع ديني مُوحد يُشجّب الإساءة إلى المقدسات الدينية ؟ وهل هذا يعني الاستخفاف من شأن التشريعات الدولية في هذا المجال؟ أليس للقانون الدولي آلياته التي تكون عقابا رادعا لمنتهكي حُرمات المقدّسات الدّينية ؟
لا يمكن أن نغمد القانون الدولي حقّه فيما أرســـــــــاه من تشريعات لــحماية المقدسات الدينية ، ولكن تبقى هذه التشريعات بعيدة عمّا يتطلع إليه أهلُ الملل والنّحل،لقد انطــــــــــــوت القواعدُ الــــــــــــــدولية علـــى مجموعة الأحكام التي تحمي الأماكن الدينية بصفة عامة أثناء الّنزاعات الدّولية المسلـــــــــــــــحة فضلا عن وقت السّلم، بل وتضمّن النـظام ُالقانوني الدولي على جملة قواعد خاصة بالمسؤولية الدولية عن انتهاك قواعد الحماية الدولية لدور العبادة ولم يُـــــــشرع قواعد خاصة بالأمــــــاكن الدينيـــــــــــــــــة المقدسة 2، وهـــــــي قضــــــــية تستحق الاستغراب والدهشة، وجديرة بالنظر والبحث.
وإن كان هناك استخفاف بدراسة الظّاهرة الدّينية من قبل القانون الدولي فــــــذلك مردّه إلى أنه في أعـــــــقاب حركات الإصلاح الدينية و مالحقها من مآسي ،سادت في الدول الأوربيـة قناعة واعتقاد بأنّ الأديان والعقائد لا تشملها دراسة في العلاقات الدولية. بيد أن تطور العلاقــــــــــــات الــــــــــــــــدولية وصلتهــا بالظاهرة الدينية التي ظلّت تُلازم الإنسان كان له عظيم الأثر في صـــــــــــــــــــــــــــياغة الـــــــــــــقواعد الـــــــــــــدولـــــــــــية التـــــي تــــــــــــــــحكم تلك العلاقــات ، لذا لم يكن غريبا أن ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن لكل شخص الحق في حرية التفكير والدين وحرية التعبير عنها وحرية إقامة الشعائر3.
ولنا أن ندعو - وبإلحاح شديد - إلى ضـــــــــــــــــرورة اهـــــــــــــــتمام القانون الــدولي بالظاهرة الدينية و إصدار تشريعات دولية يتفق عليها الجميع . ولكننا على يقين أن هذه التشريـــــــعات مهما بلغ تأثيرُها لا يمكن لها أن تكون أداة ردع، مالم تستبطن الظاهرة الدينية، ناهيك عن استحضـــــــــــــــار الــــوازع الديني باعتباره صمام أمان والدرع الواقي.ولذلك ينبغي استشعار جميع رواد الاتصال الاجتماعي بأهمية الوازع الديني الذي يعصمهم من الإساءة للأديان وإشاعة ذلك بينهم.
إن كان للقانون دوره في ردع الإنسان عن اقتراف الأخطاء إلا أن للدّين هيبته وسطوته على النفوس لا تُضاهى ، فنزعة التديُّن نزعة مغروسة في أعماق النفــــــــــس البشـــــــــــرية، والغــــــــــــريزة الدينية مشتركة بين الأجناس البشــــــــــــــرية حتى أشـدّها همجية وبدائية . وعلى المشرعين القانونيين عدم الاستخفاف بحقيقة الدّين وماهيته و عدم تشريع قوانين تُســــــــيء أكـــثر مـمّــــــــــــا تنــــــــفع ،و المتتـبع للظّاهرة الدّينية عبر التاريخ ليجدها أكثر تعقيدا وتشعبا، تتشابك فيها مفاهيم عديدة تــختلف من ديــــــــن إلى آخر، يـــــــــــتعذَّر فيها حصر الدين في قالب واحد دون الإحاطة بكل الأديان ومعرفة ماهيتها وخاصيتها.
ولقد انعكست الحيرة في تعريفات الدّين على المــــحاولات العـــــــــــديدة التي بذلت من قــــــــــــبل المفكرين الغربيين لتأسيــس مفهومٍ صــــــــحيح له، محاوِلةً أن تــــــــــراعي المقومات الأساسية المشتركة في كل الأديان وتراعي عدم الالتزام بدين معين.
وتتخذ مسألة التعريف خطورتها عندما يكون لها تأثير سلبي على إرساء قوانين دولية تحاول أن تصبغ جميع الأديان بصبغة واحدة، ومع الكمِّ الهائل من الاقتراحات التي قدمت لحل مشكلة تعريف الدّيــن بما تتفق عليه جميع الأديان إلا أنها ما زالت بـــــــــــعيدة عن تــحقيق المراد من إرســاء إطار مشترك تجتمــع حوله.
يمثل الوازع الديني بحق مستودعا للقيم الأخلاقية ، فالــــــــدّين برأي فلاســفة الأخــــــــــــــــلاق يســــــــــــعى إلى إســــــــــــداء خدمة نفعية لا يقدر عليه غيره، برعايتــــه لأهم مصــــــــــــالح الإنسانية مــــــــــــــــــــــــــــتمثلة في وحــــــــــــدة مشـــــتركـــــــــــــــة للــــــــــــــمنظومة الأخــــــــــلاقية، يتلاقى حولها بــــــــنو البــــــــــــــــــشر عبـــــــــر عـــــــــــــنها الفيلسوف كانط
بالقـــــــــانون الأخــــــــــــــلاقي العالمي4.
وقد يكون كانط مُـــــــحقا فيما ذهب إليه ولكنه فيــــــــــــــــما يبدو قد قلـّــــــص دائرة وظيفة الدّين وقيّد مجال خدمته بحصره على الجانب الأخلاقي. إن ما يتطلع إليه المرء من ربّـه حتى في دائرة الأخلاق نفسها لا يقتصر على أن يجعل الخير واجبا بل هو يرجو إلى جانب ذلك عونه وتوفيقه على استدامة الصلاح و الحياة الطيبة، كما أنه يشعر بحاجته إلى الله في مجالات كثيرة أخرى تضمنتها التجربة الدينية.
.
إن التّأكيد على الواجب الأخلاقي وحده قد يـــنـــــــّفي الشعور بالواجب نحو الله و الاســتغناء عــــــــــــنه، فالتعاليم الأخلاقية الدينيةـ ترنو إلى تـحقيق ســـــــــعادة الإنسان بقدر ما ترنو إلى رعاية مصالح الآخرين، وهي كما يذكر الأستاذـ مالك بن نبي تدفع الفرد إلى أن ينشـــــــــــــد دائـما ثواب الله قبل أن يهدف إلى تحقيق فائدة بعينها5.
وهكذا بات من اليقين استشعار الوازع الدينـــي وإشاعته بين النـاس حتى لا تُنتـــــــهك المقدسات الدينية أثناء التّـــــــواصل الاجتماعي فهــــــــي صمـّام الأمان ،و شحذ الهمـــــــــــــــــم لسنّ قوانيـــــــــــــــن دوليــــــــــة تـــــــــــحمي المقدّسات الدينية آخذة في الاعـــــتبار حاجة القـــــــــــــانون الدولي لمعرفة كـــــــنه الظّاهرة الدينية ومـــــا تتضمنه من أنساق ، وأن أي قصور في فهم هذه الظاهرة يُلقي بظلاله على أعتاب العلاقات الدولية.
ثانيا/استحضار قيّم التّواصل والتّعايش المبثوثة في الكتب المقدسة:
بعد التأكيد على أهمية استشعار الوازع الديني في ردع الناس عن الإساءة للمقدسات الدينية ،على علماء الأديان أن يحتشدوا صفا واحدا لاستحضار قيّم التواصل والتعايش المبثوثة في كتبهم المقدسة وإشاعتها على نطاق واسع .
تبعا لما سبق يُمكن طرح الأسئلة الآتية،هل هناك قواعد وأسس للتعايش بين الشعوب واحترام الآخر في الكتب المقدسة؟ وكيف يمكن تفسير بعض النصوص المقدسة التي تنضح كراهية نحو الآخر؟ كيف يمكن تفسير الأحداث التاريخية الكبرى والتي صحبتها انتهـــــــاكات مأساوية ليس بين مختلفي الأديـــــــان فحسب بل ألقت بظلالها على أبناء الدين الواحد؟ـ
لا يمكن لأي باحث مـُحقّق أن يقفز على هذه الأحداث الخطيرة ولا أن يستهين بحجم الدّماء التي أهدرت بين أتباع الديانات المختلفة ، كما لا يمكن له أن يتجاهل فترات الإخاء والتّعايش ولعلـــــــــها تكون أكثر فترة ،ولكن للأسف أن الذاّكرة التاريخية في عمومها لا يعنيها التّدوين إلا فترات الصراع والحروب.
ينبغي التذكير أن هذه المعارك والأحداث لم تقتصر على أتباع الديانات المختلفة فحسب بل كانت تُلقي بظلالها على أبنـــاء الدّين الـــــواحد وأحيانا على أبـــــــــناء الملة الواحـــــــــدة والمذهب الواحــــد في الدّين الواحد.وهنا نستحضر مسألة تفــــــــسير النـــــــصوص الدّينيـــــة والتي لعبت فيها الظّروف التاريخية والأطماع السياسية دورا حاســـما، ولكن هـــــــــل باستــــــطاعة علماء الدّين تطهــــــير النّــــــــصوص الدّينية مما لحقها من تفسيرات خاطئة؟
إن المتتبع للنّصوص الدّينية في مظانها ،يندهش من غزارتـــــــها واستيعابها ،إذ غطّت كلّ مظاهر احترام الآخر المخالف ، وهذه نماذج على سبيل المثال وليس الـحــصر،كما نقــــتصر على نـــــــــــصوص الكتاب المقدس وآيات القرآن الكريم.
1- الكتاب المقدس و قيم التواصل:
الكتاب المقدّس هو الكتاب الذي يضم بين دفتيه نصوص العهد القديم ونصوص العهد الجديد ، والكتاب له قُدسيته عند اليهود والنصارى مع الاختلاف والتفاوت بين كليهما حول عدد أسفاره ومدى قدسيتها.
في الكتاب المقدس يـُــمكن رصد كثير من النصوص الأخلاقية التي تعلي من شأن الآخر، في نصوص التوراة نجد ما يسمى بالوصايا العشر التي أعطاها الله لموسى، وهذه الوصايا من أعظم نصوص التوراة ، سواء عند اليهود أ والمسيحيين ، ولذا نرى أن المسيحيين عندما تحدثوا عن مســــــــــألة نسخ النعمة ، وهي شريعة المســــح لشريعة العهد القديم ذكروا أن من الأشياء التي مازالت باقية ومــــن الوصايا المهمة لا تقتل ، ونجد نصا آخر ذا أهمية في موضوع القتل ملعون من يقتل أحدا في الخفاء.
وظاهر النص يبدو أن الحديث يخص القتل المتعمد ، لكن مفسري الكتاب المقدس يرون أنه دال على من يسعى لقتل الإنسان بالوشاية والغيبة والنميمة والإساءة والسخرية، وهنا لا يتوقف الأمر عند فعل القتل ، بل يتعدى ذلك إلى مجرد السعي إليه6.
وفي تفسير بليغ للقديس كيرلس بابا الإسكندرية في الفترة من 412 إلى 444 والملقّب (بعامود الدين) لقصة السّامري الصالح التي وردت في إنجيل لوقا الإصحاح العاشر ،يتطرق إلى من هو قريب ؟ فيقول: (.. إن السيد المسيح في تعريفه لمعنى القريب لا يحصره في جنس معين، ولا يربطه بمستوى الفضائل أي مهما كان القريب شريرا ولكنه يطلقه على الطبيعة الإنسانية7).
عاش المسيح عليه السلام في المجتمع اليهودي وظلّ يُـحطّم الحواجز التي يضــــعها الناس،ولذلك يرى القديس بولس في رسالته إلى أهل افسس في شخص المسيح أنه هو من كسّر الحواجز بين الناس ، أي العداوة8. إنّ الآباء الأولين للكنيسة والذين نــــــــهلوا من تعاليم الـمسيح يُشــــــــــدّدون على الــــعلاقة الوثـــــيقة بين علاقة الإنسان بالله وحبه لله تعالى، وبين علاقـته بأخيه الإنسان وحبه له،كما نجد ذلك منصوصا في الرسالة الأولى للقديس يوحنا9.
2- القرآن الكريم دستور لأخلاق التعايش:
إن القرآن هو كــتاب الحوار والتعارف والاعتراف بالآخر ، آياته تدعو إلى تـــــطوير القواسم المشتركة بين الإنسان وأخيه الإنسان ، وإيجاد الســــــــــــبل لتحقيق التــــــعايش والسلام الأمن ، لهذا أمر الإسلام بالحوار والدعوة بالتي هي أحسن. وســلوك الأساليب الحسنة والطرق السلمية في مخاطبة الآخر، قال تعالى:( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).10
يقرّ القرآن بالتّعددية الحضارية بل ويـــمارسها ،إنه يــــــــرى في تعددية الشرائع ســـــــنة من سنن الله في الكون، قال تعالى:( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِــرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَــــــــــــعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْـــــــتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُـــــــكُمْ جَمِيعًا فَيُنَـــــــــــبِّئُكُم بِــــمَا كـــــــــــُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) 11.
وقال أيضا:( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)12.
ولقد أوجدت هذه النصوص تأثيرها في النفوس فبدت السماحة الإسلامية في أبهى صورها عندمـا دخل الإسلام الأندلس وخلصها من القيود الطبقية ،عاش الـجميع من مختلفي الديانات في الأندلس في ظــــــــــــــــل الحضارة الإسلامية حياة هنيئة وطمأنينة لم يعرفوا لها مثيلا من قبل ، مما شجّع الناس على الهـــــــــــــــــجرة إليها، والاســـــــتقرار فيها ، ليتمتعوا بما نعم به اليهود بصفة خاصة من حرية وثــــــــــراء ، بـــــــــــل وليرتــــــــــــــــقوا إلى الــــمناصب العـليا في الدّولة ، والتي وصلت إلى حد الوزارة.
والكتب التي ألفها اليهود بالعبرية أو العبرية أو غيرها عن الفكر اليهودي لا تستطيع أن تنكر فضــــــــــل العرب والفكر الإسلامي عليهم ، ويجدون أنفسهم مضطرين إلى الاعتراف بذلك صراحة، فهم الذين أطلقوا على فترة تربو على أكثر من قرون ثلاثة من القرن العاشر الميلادي إلى بداية القرن الثالث عشر الميلادي في الأندلس العصر الذهبي لليهود13 .
كانت قرطبة كما يذكر التاريخ تعجّ بالديانات المختلفة ، يــمتزج فيه رنين أجراس الكنائس بأصـــــــوات المؤذنين في الـمساجد، وتـــجاورت فيها الدّيـــــانات واختلــــــــــطت الأجــــــناس .وللإنصــــــــاف فإن الولايات المتحدة الأمريكية ـــــــــ مع بعض الملاحظات ــــــــــــ تصير بخطة ثابـــــــــتة في إرساء الحرية الدينية رغم العراقيل والصّعاب، وقد مشت في ذلك أشواطا واسعة نأمل أن تحذو حذوها البلدان الغربية جميعها.


ثالثا/تفعيل علم مقارنة الأديان وإشاعته:
لماذا الـــدعوة إلى إحياء علم مقارن الأديان ؟ وما هو الدور الــــــــذي يضطــلع به هذا العلــــــــــم في بــــــــــــلورة مشروع موحد للقيّم الدّينية يــخضع له الجميع؟ وما عــــــلاقة علم اللاّهوت وعلم الكلام بعلـــــــــــم مقارنة الأديان؟
1- أهمية علم مقارنة الأديان:
لقد كان لعلم الملل والنحل، منذ ظهوره في العالم الإسلامي، دور هام في الانفتاح على الشعوب والأمم، وشكل أداة للتواصل معها على أساس من المعرفة المباشرة .فصنفت فيه مؤلفات وتخصص فيه رهطٌ من العلماء المسلمين بحثا ونقدا، مستخدمين مناهج مختلفة في تناول الأديان تنهل جميعها في فهمها و أسسها المنهجية من معين التصور القرآني حول الأديان المختلفة.
للقرآن الكريم الفضل في تأصيل النظرة العلمية لدراسة الأديان والتي تنطلق أصلا من وحدة المصدر بالنسبة للرسالات السماوية، ناهيك على ذلك فإن المقارنة تأتي نتيجة للتعدد ، وليس التعددية معترف بها عند أحد ، فلم يوجد ما يترتب عليه وهو المقارنة ،وقد حفّزت هذه النظرة العالمية للدين العقول الإسلامية للاهتمام بتاريخ الأنبياء والإسرائيليات ،إلى جانب أنها أطلقت العنان لرصد آراء الملل والنحل.
إن الباحثين المسلمين انتهوا –بتأثير مباشر من القرآن- بدراسة أديان الأمم، و التنقيب عن عقائدهم و طقوسها ، وألّفوا لهذا الغرض كتبا مختصة، وفصولا مــــــــطولة في مصنفاتهم ،فـــــــــهذا كـــمال الدين بن يونس الشافعي يقول فيه ابن خلكان :( إن أهل الذمة من اليهود والنــــــصارى كانوا يـــقرؤون عليه التوراة والإنجيل فيفسرها لهم ، وكانوا يعترفون بأنهم لا يجدون من يوضحها لهم مثله)14.يرى آدم ميتز إن من مفاخر الحضارة الإسلامية ظهور علم مقارنة الأديان وذلك بسبAdam Mez
التسامح والتعايش الذي أقرّه الإسلام مع مختلف معتنقي الديانات15.
تفعيل علم مقارنة الأديان: - 2
حتى يؤدي هذا العلم دوره المنشود في إشاعة التعايش التسامح بين الشعوب ينبغي مراعاة ما يلي:
- احتضان علم مقارنة الأديان للحوار والجدل الديني وتبنيه:
الجدل الديني في علم مقارنة الأديان حوار قائم على معرفة الآخر وقبوله بطرق علمية ،وهو بإمكانه تبني قضايا الحوار بين الأديان ، ولا بد أن يلج هذا العلم حلبة المراجعات الدينية الكبرى ، ليس فقط استجابة لواقع اليوم ، ولكن أيضا نتيجة لما خلفته علوم اللاّهوت المسيحي أو علم الكلام الإسلامي من جدل ديني غايته التّغلب على الآخر والدفاع عن الذّات .علينا أن نستعيض بعلم مقارنة الأديان عن علم اللاهوت أو علم الكلام في أي حوار ديني جاد. ينبغي أن يأخذ علم مقارنة الأديان مكانته و استقلاله التام ، ،ويأخذ بزمام الأمور ببعث القيم الأخلاقية المشتركة ودراسة المختلف فيه بحيث لا تكون هذه المقارنة تنازعا وتضادا بل تكون تجادلا بالتي هي أحسن،ومناقشة علمية هادئة،مع الاحترام الكامل للتميز والاختلاف بين مختلف الأديان، في سبيل بناء مجتمع بشري يسوده السلام والوئام.
حري بنا وفق هذا الــمنهج أن نــحرص جـميعا على إشـاعة هذا العلم وتــــــــــــوسيع دائرته وإعـلاء من شأنه.
3- استيعاب مقارنة الأديان وانفتاحه على المناهج الحديثة:
يحدونا الأمل بغية إحياء التراث الإسلامي لعلم الملل والنحل لا يزال مغمورا أو متجاهلا بسبب نظرة التوجس والحذر التي ينظر بها إليه من قبل لفيف من الـــــــــــتيارات الفكرية المنغلقــــــــــــة في الـــــــــــــعالم الإسلامي.
إن عملية التأصيل هذه لا ينبغي أن تتم من خلال مركزية متحيزة معرفية متردية في الانغلاق والجمود بل من خلال الانفتاح والاستيعاب الواعي لمفاهيم الآخــرين .وما يــــــعزز ذلك ما انفــردت به الحضارة الإسلامية من تعايش أصحاب المـــلل والنحل المختلفة في كنفها. وهكذا اهتم المسلمون بدراسة مقارنة الأديان ، ولكن سرعان ما لاحت عصور الانحطاط التي لـحقت المسلمين حتى اتـجه كثير من الفقهاء إلى التعصب لمذاهبهم الفقهية فانحصر أو انعدم اشتغالهم بالأديان الأخرى وتعاليمها.
وليس بعيدا عن ذلك على الرّغم من تعرض علم مقارنة الأديان في الغرب لمقاومة شديدة من التيار اللاّهوتي المسيحي المتعصب ومن بعده المذهب الماركسي فقد ازدهر هذا العلم ونما نمواً واسعاً، ولاسيما منذ مطلع القرن العشرين، وخاصة منذ استخدام المنهج الفنومنولوجي كما جاء به هوسرل(Husler) والذي طبقت في علم الأديان من طرف لهمان(Lehmann)16.
بل استوعب علم مقارنة الأديان علم الفيلولوجيا والأنتوغرافيا كما استفاد من طرق الأنتروبولوجيا واستعان علماء الاديان بالعلوم الدقيقة مثل ما فعل(لويس فريه)(Luis. Frey) 17.
4- مقاومة التّحيز في علم مقارنة الأديان:
إنّ علم مقارنة الأديان قد نما وازدهر منذ بدايته في الفترة الإسلامية حتى عصرنا الحالي، متطوراً وفق المعطيات العلمية المستجدة، كما أنّ هذا العلم تجاوز كثير من العقبات الإبستومولوجيا التي تتعلق أصلا بخصائص الظاهرة الدينية ، ومع أنّ علم تاريـــخ الأديان قد بلغ شأوا كبيراً في أخذ مكانته اللائقة به في مصاف المعارف الحديثة الخاضعة لمحك العقلانية والموضوعية، لكن مازال هذا العلم لم يتحرر من ظاهرة التحيز التي تطبع بعض الدراسات الدينية في الفكر الغربي لتصل إلى نتائج بالغة الخطورة ،
حيث غدا فيه منهج هؤلاء سمة بارزة للدراسات العلمية الجادة وما عداها ليس إلا ضروبا من الأوهام والخرافات.نأمل أن يشق هذا العلم طريقه كما فعل من قبل في خــــــــــــدمة الإنسانية بــــعيدا عن التّحيز. مع هذه الأهمية عاد هذا العلم إلى الظــــــــــهور في الجامعات ولكـــــــــــــــــــــــنه في الـحقيقـــــة ظهـــــــــــــــــوره في الجامعات الديــــــــــنية مُـحتشــــــم لم يأخذ بعد مكانته اللائقة، وقد سعت جامــــــعة الأمير عبــــــد القادر للعلوم الإسلامية بالجزائر منذ نشأتها 1984م بالأخـــذ على عاتقــــــــها القيام بـــــــــــــهذا الـــــدّور حيث خصّصت قسما بأكمله لدراسة مقارنة الأديان .
ونحن إذ نُسدي شكرنا الخالص لمركز قطر للأديان على ما يــــــــــــبذله في تفعيل الحوار بين الأديان وقد بلغ شأوا لم يبلغه غيره ،نـهيب بالمركز الموقر أن يتولى تطوير هذا العلم وترقيته وتفعيله ليـــأخذ مكانه في الـجـامعات الإسلامية خاصة لأننــــــــــــــــا على يقين أنه يعد صمّام الأمان وطوق النجـــاة لأي تــــــــــــــــواصل اجتماعي يخص الدين بين بني البشر.
مراجع البحث:
1- سورة الحجرات:آية 13.
2- المادة الأولى من اتفاقية لاهاي لعام 1954.
stanislaw E . NAHLIK: la protection des biens culturels .R.C.D.I.1967.Rome P 147
3- مصطفى أحمد فؤاد،الأماكن الدينية المقدسة ،في منظور القانون الدولي،مصر:الإسكندرية،منشأة المعارف،2007 م ،ص12.
4- محمد كمال إبراهيم جعفر ، في الدين المقارن،القاهرة:دار الكتب الجامعية، ص65.
-Maxime Rodin sone: L Islam Politique et Croyance .paris : Librairie Ar thème Fayard.1993.pp30-31
5- مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، ترجمة عبد الصبور شاهين، دمشق: دار الفكر،د ت، ص248.
6- خالد بن محمد الشنير،حقوق الإنسان في اليهودية والمسيـــــــحية والإسلام مـــــــــــــــقارنة بالـــــــــــــــقانــــــون الدولي،مكتبة الملك فهد الوطنية،ط1،سنة 2009،ص ص37-38.
7- سمير مرقص،مفهوم الآخر في المسيحية المصرية الأرثوذكسية، مقال في كتاب جماعي سمير مرقص وآخرون ،مفهوم الآخر في اليهودية والمسيحية،دمشق:دار الفكر،ط1،سنة2008،ص137.
8- أفسس2/11-22.
9- يوحنا4/7-8،11-12.
10- سورة النحل،آية 125.
11- سورة المائدة،آية 48.
12- سورة هود،آية 188.ف العبرية
13- شعبان محمد سلام وآخرون،الإسلام وحوار الحضارات،الرياض:مكتبة الملك عبد العزيز العامة،سنة 2004م،مج1،ص230.
نقلا عن: أوتسار يسرائيل،دائرة المعارف العبرية،ج7،ص259.
14- بن يونس هو العلامة شرف الدين أبو الفضل أحمد بن الشيخ الكبير كمال الدين موسى، ابن الشيخ رضي الدين يونس، بن محمد الإربلي، ثم الموصلي الشافعي، صاحب شرح التنبيه، مات في سنة 622هـ، أنظر الذهبي ، تهذيب سير أعلام النبلاء، ج3، ص206.
أنظر : أبو حامد الغزالي، الرد الجميل على ألوهية المسيح، تحقيق محمد عبد الله الشرقاوي ،القاهرة: دار الهداية، ط2، سنة 1988م، ص18.
15- آدم ميتز،الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ،ترجمة عبد الهادي أبو ريدة،القاهرة:لجنة التأليف والترجمة والنشر ،سنة 1957م،ص68.
16- C.J Bleeker , Comparing the Religion-Historical And The Theological Method (NVMEN , vol xv III , Leiden. E. J . Brill 1971) PP9-29.
17- أنظر بالتفصيل:
ERIC J. SHARPE : Comparative ReligionA History.
Second edition. Ltd London 1990.
 

   
يفتتح مؤتمر الدوحة التاسع لحوار الأديان أعماله الاثنين 24 أكتوبر في فندق الشيراتون في الدوحة، قطر، باشتراك أكثر من مئتي شخصية دينية و أكاديمية من خمسة و خمسين بلداً.
يتطرق المؤتمر هذه السنة إلى موضوع تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الحوار بين الأديان، عبر جلسات وورش عمل تمتد لثلاث أيام متواصلة.
يعقد مؤتمر الدوحة التاسع لحوار الأديان بإشراف مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان و اللجنة الدائمة لتنظيم المؤتمرات
.
تنبيهات بريدية  
للحصول على آخر الأخبار والتحديثات من فضلك أدخل عنوان بريدك الإلكتروني