الصفحة الرئيسية  |  البرنامج   |   المشاركين  |  الأخبار |   الكلمات   |   ألبوم الصور   |  الفيديو   |  في الصحافة   |   مواقع مهمة   |  اتصل بنا
   

الشباب العربي والتواصل الافتراضي: اتجاهات التأثير على الهوية وتنمية التفاعل مع الآخر
د.عائشة التايب

ما من شكّ أن الدول والمجتمعات العربية ولجت منذ 17 ديسمبر 2010 (يوم انطلاق الشرارة الأولى للثورة التونسية) فصلا جديدا من تاريخها الاجتماعي والسياسي والثقافي مختلف التفاصيل عن سائر الفصول السابقة. وارتسمت بمقتضى ذلك ملامح عهود جديدة لمجتمعات مغايرة انكسرت بمقتضاها جملة من المسلمات وعددا من المنمطات والأفكار التي كانت تروج حول مجالات عديدة في حياة الفرد والمجتمع العربيين، وينطبق ذلك على السياسة كما على الاقتصاد والمجتمع والثقافة.

ومن المؤكّد أن تسارع وتيرة أحداث ما أضحى يسمّى بربيع الثورات العربية في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، يمثّل بالنسبة لنا كباحثين فرصة مهمّة لإعادة النظر المتأنّي في بعض تلك المسلمات على ضوء مستجدات الأحداث. كما أضحى يفرض علينا ضرورة تغيير الأساليب المعتمدة في التفكير العلمي والسوسيولوجي في بعض جوانب حياتنا، والتي ظلت لفترات طويلة أسيرة أطروحات بدا فيه التشاؤم المتصل بواقع وهن المجتمعات العربية وتردي مشهد حضورها في الساحة الدولية الطابع الغالب على التحليل والطرح.

وتطرح هذه الدراسة محاولة إعادة النظر في بعض ما كان سائدا من أفكار وأطروحات حول علاقة الشباب العربي بمواقع التواصل الاجتماعي وبالانترنت عموما واتجاهات ذلك التأثير خاصة مع مسار التغيير المجتمعي الذي انطلق مع الثورات العربية. وتحاول البحث في واقع حضور قضايا الحوار بين الأديان والتفاعل بينها وقبول الآخر في مجال التواصل الالكتروني لدى الشباب العربي. وتجتهد في تصوّر سبل أجدى للتوظيف الايجابي لاستخدامات الشباب لتلك المواقع بما ينمّي حس التعايش السلمي والمشترك بين الديانات والثقافات المختلفة، وزرع قيم التسامح وقبول الآخر.
ملاحظات أوليّة: سوسيولوجيا استخدام الوسائط المتعددة والمداخل النظريّة

أمام الانتشار السريع للتكنولوجيات الحديثة للاتصال والمعلومات وفي خضم سياق أضحى فيه الفرد مشدودا إليها في أدقّ تفاصيل حياته، كما أصبح فيها ذلك الفرد على نطاق كوني وبغض النظر عن مستواه العلمي وانتمائه الاجتماعي في حالة ربط دائمة مع مختلف مبتكرات تلك التكنولوجيا من هاتف ثابت ومحمول، تلفزيون حاسوب، بريد إلكتروني، موقع في شبكة اجتماعية إلكترونية إلخ، أمام كلّ ذلك وجدت العلوم الإنسانية والاجتماعية نفسها مجبرة على التنحّي عن تناول بداهة استعمال الفاعل الاجتماعي للتقنيات الحديثة ومستويات توظيفه المتنوع لها في سائر مجالات حياته الخاصة والمهنية، مقابل التوجه إلى طرح تساؤلات أكثر عمقا وشمولا. ويتنامى الحديث اليوم عما يسمّى بسوسويولوجيا استخدام التقنيات الحديثة بوصفها اختصاصا يرفض النظر إلى الاعتبارات التقنية الصرفة في مجال تطوّر تكنولوجيا المعلومات والاتصال بمعزل عن النظر إلى أحوال الأفراد المستخدمين لها والسياقات الاجتماعية والثقافية المتصلة بهم. كما اتجه الاهتمام إلى التركيز على أهمية أدوار التغيير والتعديل التي يقوم به الفاعل الاجتماعي من خلال استخدامه لتلك المبتكرات التقنية وقد تبيّن أن الاستخدام لا يرتبط بتحديد تقني مسبق البرمجة ومسطّر سلفا بقدر ما تمثّل الاعتبارات الاجتماعيّة بشحناتها الثقافية والقيميّة المختلفة مسألة مهمّة ومستوى نظر لا غنى عنه في سياق البحث والتحليل. ويبقى التفاعل المزدوج بين الاجتماع والتقنية المحدّد الأبرز للاستخدام الاجتماعي لتكنولوجيات الاتصال والمعلومات.

ومن منطلق تتبع صيرورة استخدام الأفراد للتقنيات الحديثة أضحى التركيز منصبّا على ما تحدثه تلك الاستخدمات من تحولات اجتماعية في مستوى الأفراد والجماعات وما يطوّره الفاعلون عبر ذلك الاستخدام من ممارسات اجتماعية وثقافية مختلفة ومستجدة. وتبعا لذلك تمّ التوجه نحو التركيز على دراسة تطوّر علاقة الفرد بذاته وبالمجموعة الاجتماعية عبر وساطة تلك التقنيات وما تحمله من علاقات اجتماعية كامنة ومن أنماط جديدة منها. وتحوّلت بذلك أنظار المختصين في اتجاه تطوير سبل البحث عن الأساليب التي يقوم بها المستخدمون لتطويع تلك التقنية لغايات المشاركة والتواصل والترفيه بأشكال فرديّة وجماعية في ضوء تمثلات جديدة للزمن وللمجال ولأشكال الوساطة بين الإنسان والآلة والمجتمع. ولئن اعتبرت تلك الوساطة القائمة تقنيّة الطابع بما أن الآلة المستخدمة تهيكل ممارسة الفرد والمجموعة المستخدمين لها، فإنها أيضا وساطة اجتماعية ثقافية لأن أشكال الاستخدام والممارسة الاجتماعية تسترفد معانيها ودلالتها من الواقع الاجتماعي الذي ينتمي إليه ذلك الفرد .

ونجتهد في هذا المقام في تناول بعض أوجه الممارسات الاجتماعية ذات الصلة بالتواصل الافتراضي لدى الشباب العربي اليوم محاولين تلمّس بعض خيوط الوصل البارزة في تقاطع الممارسة الرقمية مع خصوصية السياق السوسيوثقافي للشباب العربي. ويدور التحليل في ضوء فرضيّة أساسيّة تستبعد منذ المنطلق الحكم المطلق والشمولي سلبا أو إيجابا على تأثيرات تلك الممارسات وتداعياتها. كما يستبعد المنظور الشمولي الذي يتعامل مع الشباب كفئة متجانسة وكتلة عمريّة متناسقة السلوك والأهواء والدوافع. ويرتكز التحليل في المقام الأوّل على تناول الاتجاهات العامة لاستخدام الشباب العربي لشبكات التواصل الاجتماعي، مع محاولة استعراض بعض إشكالات الجدل القائم حول حجم تداعيات الاستخدام المكثف وغير المراقب لذلك على الشخصية وعلى الهويات الفردية والهوية الجماعيّة للشباب العربي. ونجتهد في مقام ثان في استجلاء ملامح مستقبل تلك العلاقة بين الشباب ومواقع التواصل الاجتماعي ودورها في مجال خدمة التفاعل مع الآخر ورفد مسارات الحوار بين الأديان.

1 - التواصل الافتراضي :اتجاهات التأثير على الهوية الفردية والجماعيّة ومزايا حسن التوظيف والاستخدام
أن الانتشار الواسع لاستخدام الوسائط المتعددة في حياة شباب العصر بمختلف تلوناته العمريّة وانتماءاته الاجتماعية والجغرافية ولاسيما لدى هؤلاء المولودين معها والمتطبعين بها منذ العمر المبكر، أضحى يدفع باتجاه الحديث عن اختراق "ثقافة الشاشة" لحياتنا اليومية وحياة هؤلاء الأجيال بصفة اخص. وقد تضاعف عدد الشاشات في مختلف أركان الحياة الاجتماعية من شاشة التلفزة إلى شاشة الهاتف الجوال إلى شاشة مزوّد النقود ولوحات التحكم في السيارة الخ ، بحيث أصبحت الشاشة وسيلة للاستخبار والاستعلام والتواصل والتزود بالمال...ولا شك أنها "ثقافة شاشة" مختلفة عن ثقافة الصورة، تماما مثلما كانت ثقافة الطباعة شيئا مغايرا لحضارة النصّ المكتوب ومختلفا عنه . هذا وتبقى شاشة الحاسوب من أكثر تلك الشاشات تعقيدا ومن أعظمها تأثيرا في إعادة هيكلة أنماط الحياة الاجتماعيّة، لاسيما بعدما جعلت الانترنت من الحاسوب محملا ووسيط تقنيا متعدد الوظائف فاستحالت شاشته إلى وسيلة إعلامية ومصدر معارف ووسيلة تعليمية ووسيلة اتصال وتواصل ووسيلة ترفية وتسلية.. كما استحالت جسر عبور منفتح الاتجاهات والواجهات رابط بين الفضاءين العام والخاص.

لقد سبقت الإشارة إلى ما أصبح يكتسيه البعد الاجتماعي من أهمية في تحليل ظواهر الاستخدامات المختلفة للتكنلوجيات الحديثة لدى الشباب، وقد شدّدت مقاربات سوسويولوجيا الاستخدام على ضرورة الانتباه إلى ما يقوم به الفاعل من تطويع اجتماعي للتكنلوجيات المستخدمة، بما يدفع نحو تجاوز النظر المجرّد لعلاقة الفرد بالأشياء التقنية نحو اعتبار أكبر للمكانة التي تحتلها تلك الممارسات في إطار الحياة الاجتماعية اليومية للفرد وضمن سياقه السوسيوثقافي، وبهذا تصبح تلك الممارسات جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية فهي تنصهر فيه ولكنها في نفس الوقت تفعل فعلها فيه من حيث التأثير والتعديل وإعادة التشكيل. ويدفعنا هذا إلى التساؤل عن واقع تطويع شبابنا العربي للتكنولوجيات الحديثة والانترنات تحديدا، وعمّا أفرزه استخدام هذا الوسيط الرقمي من ممارسات اجتماعية في أوساط شبابنا وتأثير ذلك على مسارات بناء وإعادة تشكيل هويّاتهم الفرديّة والجماعيّة ؟

لا تزال الدراسات الميدانية المعمقة النتائج حول تحليل تأثير استخدام الانترنت على الشباب العربي قليلة ونادرة وجزئية بحيث تغيب الدراسات ذات الطابع الوطني أو الإقليمي عن المشهد البحثي والأكاديمي العربي في هذا النطاق. ومن خلال بعض الدراسات المتوفرة يلمس الدارس أحيانا تشديدا على التأثيرات السلبية والانعكاسات الخطرة لاستخدام المكثف للانترنت من طرف الشباب. وتقع التركيز على ما يمكن أن يكون للمحادثات الالكترونية الافتراضية وظواهر الدردشة من آثار سلبية مثل تلك التي تجعل الشباب يعيشون عوالم غير واقعية ويقيمون علاقات تفاعلية مع أشخاص غير منظورين مما يؤثر في ملكات الاتصال الفيزيقي الطبيعي لديهم. كما يقع التأكيد على ما تولده الفضاءات الاتصالية الحرة في فئة الشباب من نزعة تحررية تجاه ما هو محرم اجتماعيا، فتكون بذلك فضاءات لتشكّل ذوات متعددة ويحدث لديهم ما يشبه انفصام الشخصية جرّاء تقمص شخصيات وهميّة حيث يتبنى الذكور شخصيات الإناث ويظهر الكبار على أنهم صغار والبطالون على أنهم موظفون أو أطباء أو مهندسون . ويبقى هذا البناء الوهميّ للهويات واستعارة الشباب لهويات غير حقيقية والتواري وراء ذوات متعددة وهويات مصطنعة، حسب بعض الدراسات وخيم النتائج على شخصية الشاب ومسار تشكيله الفعليّ والواقعي لهويته الفرديّة. هذا وترى بعض الدراسات أن كثرة استخدام الشباب للانترنت تجعلهم يخلطون بين الواقع المعيش والواقع الافتراضي مما يدفعهم إلى العيش في واقع وهميّ موازي يتبنون فيه قيما وأفكارا وتصوّرات خاصة بهم لا نجدها في الواقع الفعلي، ويصل ذلك إلى حدّ إعجاب الشباب بهذا العالم الافتراضي البديل فيتخذه ملاذا ومهربا من العالم الحقيقي الذي يفشل فيه ولا يحقق فيه ما كان يصبو إليه ، فتنمّي بذلك الانترنت في الشاب نزعة الهروب تجعله ينفلت من واقعه الاجتماعي متخّذا من الواقع الجديد تعويضا عن وضع مفقود وهو ما سوف يخلق لديه حالة نفسيّة غير مستقرّة مما يزيد الشباب عزلة وابتعادا عن السياق الاجتماعيّ.
وفي مقابل بعض المواقف المؤكدة على خطورة الاستخدام الاجتماعي للانترنت من قبل الشباب تذهب بعض المواقف الأخرى في اتجاه يثمّن بعض مزاياها، مشدّدة على ما تتيحه للشاب من فرص تعارف وتبادل حرّ للآراء والأفكار.
وبعيدا عن اتخاذ أي مواقف معيارية من الحكم على الانترنت ومواقع التواصل الافتراضي أو عليها، تجدر الإشارة إلى أن ظواهر استخدامها في أوساط الشباب العربي وتحديد درجة التأثّر والتأثير وتحليلها تتطلب جهودا كبيرة من التدقيق والتمحيص العلمي في أنماط الاستخدام وكثافتها وذلك في صلتها بالشباب المستخدم من ناحية، وفي صلتها بالخلفيات الاجتماعية والمستويات التعليمية ومتغيرات النوع الاجتماعي لدى هؤلاء الشباب من ناحية أخرى.
وتذهب اليوم بعض الدراسات إلى التقليل من شأن التأثيرات الجماعية العامة والتحولات الجوهريّة التي يمكن أن يحدثها استخدام الشباب للانترنت وخاصة لمواقع الدردشة والتواصل الالكتروني عموما، لأن الانترنت بتنوّعها وتنوّع مصادرها لا تشي بالتأثير المباشر على أذهان الناس، كما يتّهم التلفزيون بقوّة تأثيره وتسويق الأفكار واصطناع المواقف الجماعية والتوجيه الجماعي لسلوك الأفراد والمجموعات وتنميط الرأي العام. وتبعا لذلك فان الانترنت لا تعتبر وسيلة اتصال جماهيري بما أنها لا تفرض محتوى موحدا على المتلقّي، فتنتفي فيها بذلك حركة وحدة المضمون المبثوث والاستقبال الجماعي له.
وبالتالي يمكن القول أن طبيعة العلاقة القائمة بين الشاب وبين الوسيلة التقنيّة المستخدمة والمحتوى المتوفّر وطبيعة التأثير ترتهن بعوامل عديدة منها درجة تطوّر الآلة المستخدمة ومحتواها التقنيّ ومستوى التفاعليّة الذي تتيحه للنفاذ للمتوفر من مادّة في مستوى الشبكة من ناحية، وما يمكن أن تمنحه الوسائط المتعدّدة من أشكال وأساليب لامتناهية من استخدام الشاب/ الشابة لها وفقا لميولاتهما وخياراتهما الشخصية المرتبطة بمكتساباتهما المعرفية والاجتماعية والثقافية من ناحية أخرى. وبذلك يساهم استخدام هذه التكنولوجيا في استحداث أنماط استعمال وسلوكات جديدة مختلفة من شاب مستعمل إلى آخر. هناك إذا اختلافات وتباينات بين الأفراد المستخدمين رغم وحدة الممارسات. هذا ويصحّ القول بأن الممارسات الرقمية واستخدامات الانترنت ليست موحّدة لدى كلّ الشباب، بما أن الشباب هو جمع بصيغ مفردة وهو لفظ ينشطر إلى أفراد ومجموعات تتلوّن ممارساتهم باختلاف متغيرات النوع والانتماء الاجتماعي والمستوى التعليمي والمكتسبات الثقافية ودرجة الفضول الشخصي واتجاهات الذوق والميولات الشخصية. وإذا وقع التسليم جدلا بتقاسم شبابنا لنفس الممارسات الرقمية عبر الانترنت فلا بدّ من الإقرار بتمضهراتها المختلفة من شاب إلى آخر ومن مجموعة من هؤلاء الشباب إلى أخرى.
وربّما يفيدنا تحليل الاستخدام الرقمي للشباب وفق متغيّر النوع الاجتماعي في تأكيد فرضيّة مدى اختلاف النتائج وأهميّة التدقيق العلمي في تحليل الموضوع بشكل يراعي تنوّع فئة الشباب واختلاف اهتماماتهم وتفتيت وحدة بعض المسلّمات والبداهات الخاطئة. لقد كانت بعض الدراسات المنجزة في أواخر القرن العشرين تصف الوسائل التكنولوجية بكونها ذكورية، وبأن الشبّان يمتلكون المهارات التقنية بنسبة أعلى من نسبة الشابات وأفادت تلك الدراسات بان للشبان اتجاهات ايجابية تجاهها أكثر من الشابات، بما أنهم يستعرضون بواسطتها معارفهم ويعبّرون عن اهتماماتهم . لكن الدراسات الحديثة في هذا الاتجاه أضحت تبيّن مدى انحصار الفجوة النوعيّة بين الذكور والإناث في مستوى استخدام التكنولوجيات الحديثة في بلداننا العربيّة. وذلك خاصة مع تراجع فوارق التمدرس بين الذكور والإناث في أغلب المستويات التعليمية وبمختلف البلدان العربية، ومع انتشار اقتناء الأسر للكمبيوتر وتبنيه من خلال فئات المجتمع المختلفة كوسيلة عمل وترفيه أساسية. ولذا يعد الفرق كبيرا بين الجنسين في الجيل الذي أطلق عيه جيل الانترنت والذي ولد مع عصر الرقمنة واتخذ من الانترنت أداة أساسية للاتصال والتواصل والترفيه والتعلم والاستهلاك الثقافي. وتشير بعض الدراسات العربية المنجزة حديثا في لبنان إلى أن استخدام الانترنت صار واسع الانتشار بين الشباب عامة 94 ٪ واستخدام الشابات لا يقل شيوعا عن الشبان حيث قارب متوسط عدد ساعات الاستخدام اليومية الساعات الثلاث للفئتين. ومع أن البحث عن الصور والموسيقى والأفلام عبر الانترنت يغلب عند الفئتين 63 ٪ على نسبة البحث عن نصوص مكتوبة 37 ٪، إنما يمكن القول أن الانترنت أصبح وسيلة للقراءة لنسبة غير قليلة من الشباب، فهو لا يبعدهم من النص المكتوب وإنما يقربهم منه، بل لعلّه يستعيدهم إليه بعد أن قامت الصورة المبثوثة عبر التلفزيون بإبعاد الناس عن القراءة كما يعتقد أكثر الناس.
ومما لا شك فيه أنّ الانترنت، ولاسيما من خلال توفيرها لخدمة التواصل الالكتروني عبر الشبكات الاجتماعية، فتحت فضاءات أرحب للحوار والنقاش وطرح قضايا ربّما لم يكن متيسّرا للبعض طرحها ومناقشتها. ومن المؤكّد كذلك أن فضاءات الدردشة والتواصل الإلكتروني أضحت تطرح خيارات أكبر وفرصا مغايرة لشبابنا للتعاطي الفكريّ والثقافيّ والاجتماعيّ عن بُعد، وأصبحت نوافذ مختلفة للتواصل تختزل المسافات وتتيح تبادل المعلومات والأفكار.وهو ما تعبّر عنه بجلاء أرقام قواعد مستخدمي بعض الشبكات الاجتماعية للتواصل مثل "الفايس بوك" الذي فاق عدد المنخرطين فيه منذ نهاية سنة 2009 عدد سكان الولايات المتحدة ليصبح بذلك ثالث أكبر" دولة" من حيث عدد السكان بعد الهند والصين. وبلغ عدد مستخدمي هذه الشبكة في الوطن العربي(حسب بعض المصادر) 15 مليون مستخدم، 70 بالمائة منهم في مصر والمغرب وتونس والسعودية والإمارات، وتتصدر القائمة مصر ب3.5 ملايين تليها السعودية ثم المغرب. وكشفت دراسة قامت بها شركة "سبوت اون" في دبي أن عدد روّاد "الفايس بوك" قد ارتفع في سنة 2009 بعدما أضافت إدارة الموقع النسخة العربية ممّا أدى إلى كسب 3.5 ملايين مستخدم عربي جديد. وبينت الدراسة أن 50 بالمائة من المستخدمين دون 25 سنة معظمهم من المغرب وفلسطين والأردن ولبنان وتونس واليمن .
يكتشف المتتبع لحركة انخراط الشباب من مختلف الدول العربيّة في مناطق التواصل الافتراضيّ المتوفرة والمطوّرة على الشبكة أهميّة ما أضحت توفره بعض المدونات وسائر الشبكات الاجتماعيّة من "فايس بوك" و"يوتوب" و"تويتر" من مساحات انخراط أكبر لأعداد من شبابنا في مجال التبادل الحرّ للأفكار وللنقاش والتحاور. وقد أتاحت بعض المدونات العربية على الانترنت للشباب العربيّ ذي المستويات التعليمية العالية والمتوسطة وحتى المحدودة من الولوج إلى عالم التقنية وتدوين الأفكار وإبداء الرأي وتسجيل الحضور. وقد مكّن بعضها بشكل عام من خلق أجواء ايجابية للتفاعل الحرّ والنقاشات البناءة وفتح مجال الحريات والتعدديّة الفكريّة وتوسيع أفق تقبل الشاب لآراء الآخرين.
وبغضّ النظر عن محتوى تلك المساجلات الحوارية التي تتفاوت مستويات جدّيتها ومضمونها من مدونة ومجموعة وشبكة إلى أخرى، يبقى شكل التواصل في حدّ ذاته مهمّا من حيث حفزه للشباب على المبادرة بإبداء الرأي واكتساب ملكات بسط وجهات النظر واستغلال فرص المحاججة والتحاور والإقناع والاستماع إلى الرأي المخالف. ويبقى كلّ ذلك بنظرنا على قدر كبير من الأهميّة بما يطرحه على الشاب من فرص مختلفة لاكتساب جملة من المهارات والمعارف.
هذا ولا يمكن في نفس الاتجاه نفي ما أضحت تيسّره عمليات التواصل الالكتروني عبر الإبحار الفردي أو الجماعي (من خلال انخراطه في المجموعات والشبكات الاجتماعية) للشاب في الانترنت من تطوير مباشر وإغناء لمكتسباته المعرفيّة بما أضحى يتوفر له من فرص نفاذ مباشر وحينيّ للمعلومة دون تعقيد أو حواجز من ناحية، وبما أضحت توفره بعض مجموعات المُبحرين لبعضهم البعض من دروس ومساعدة تعليميّة مباشرة ومجّانية لمن يطلبها.
يركّز المختصّون في مجال الإعلام وفي سوسيولوجيّة الاتصال اليوم على تغيير شبكة الانترنت للمشهد الاتصالي وما أفرزته من تحوّلات جذريّة في مستوى طبيعة أداء الوسيلة الإعلامية مقارنة بالوسائل التقليديّة. وتتجلّى ملامح ذلك خاصة فيما أصبحت تطرحه الطبيعة التفاعليّة للاتصال عبرها وصعوبة السيطرة والرقابة على محتوى المواقع الالكترونية، إلى جانب اتساع نطاق القاعدة الاجتماعيّة المستخدمة للانترنت وعدم تقيّدها بالحدود الجغرافية والسياسية، وتحوّل الجمهور المتلقي فيها من مجرّد مستخدم ومستهلك مجهول إلى مشارك فاعل في تشكيلها وفي حركة نشر المعلومة والخبر فيها وعبرها.
وقد أضحت المدونات والشبكات الالكترونية إلى جانب كونها منتديات للتحاور والنقاش وسائل إعلام بديل وفضاءات إخبارية بامتياز تنقل الخبر حين وقوعه مجسّدا بالصوت والصورة إلى قواعد المستخدمين، فظهرت بذلك "صحافة المواطن" التي تلعب فيها وسائل الإعلام الاجتماعي دورا رئيسيا في توسيع آفاق التعبير لدى المواطن وتقديم مصادر معلومات بديلة للإعلام التقليدي. وبصرف النظر عمّا يمكن أن يطرحه هذا الوسيط الإخباري الجديد من تحديات جديدة في مستوى صحّة الخبر، ومدى حرفيّة صناعته، وغايات ترويجه وأشكال توظيفه المختلفة، وما يمكن أن يطرحه غياب الأجهزة والهياكل الإخبارية المختصة والمؤهلة في نقل الخبر من فوضى ومن تداعيات سلبية على الفرد والمجتمع، يجدر التأكيد كذلك على بعض المنازع الايجابيّة في هذه التحوّل في المشهد الإخباريّ والاتصاليّ.
ولا بدّ من الإشارة أوّلا إلى أن الأهمية المتعاظمة لدور الإعلام الجديد شكلا ومضمونا في حياتنا الاجتماعيّة وشدّه لأنظار الشباب واكتسابه لنوع من المشروعيّة المجتمعيّة لديهم، إنّما هو في جوهره تأكيد لعجز مضامين وسائل الإعلام الأخرى على استقطاب هؤلاء الشباب. وما إقبال الشباب المستجدّ على المادة الإخبارية العالمية والإقليمية والمحليّة المروّجة على طريقة الشبكات الاجتماعية، ونجاح هذه الأخيرة في استقطاب انتباهه، إلاّ تأكيدا على فراغ في المشهد الإعلامي العربي يستبطنه الشباب بدرجة أولى، وما هي إلاّ دليل كذلك على فشل الإعلام السائد في تلبية احتياجات هؤلاء الشباب من المادة الإخبارية بالطرق التي تروق لهم.
وربّما يبقى الحضور اللافت لشباب الفايس بوك في ثورة تونس أوّلا وفي ثورة مصر ثانيا أكبر الأمثلة على قدرة الشباب العربي (الذي ما فتئت أغلب الكتابات قبل تلك المرحلة تتهمه بإهدار الوقت وسوء استخدام الانترنت ومواقع الدردشة) على حسن توظيف تقنيات التواصل الافتراضي. وقد حوّل ذات الشباب الذي كان يستخدم مواقع التواصل في إلهاء النفس والترويح عنها الى مواقع لتبادل الأخبار ونشرها على نطاق واسع، وتمت البرهنة على إرادة فائقة في التحرّي في الخبر والجديّة في تداوله والتدقيق في تفاصيله. وكان لشباب الفايس البوك في تونس وحده الفضل في كسر حواجز التعتيم الإعلامي حول حركات التمرّد بمختلف الجهات الثائرة بالبلاد ومدّ المواطن التونسي والفضائيات العربيّة بآخر المستجدات والأخبار. وقد كشفت الشهادات الحيّة لعدد من شباب الثورة التونسية الذين وظفوا الفايس بوك كوسيلة إعلامية في الأيام الأولى للثورة عن عبقرية كامنة مثّلت أحد أسرار كسر أطواق الصمت لدى المواطن البسيط كما لدى النخب والحساسيات السياسية والنقابية التي التحقت بحركة التمرّد، فكانت بذلك "هندسة" الشباب (وبخاصة شباب الجهات الداخلية) للتحرّك عبر مواقع التواصل الافتراضي وتحديدا الفايس أحد أبرز عناصر نجاح واستدامة شرارة الانتفاض وسريان التمرد لبقية المناطق الأخرى. وهو ما لم يحدث في حركات احتجاج سابقة كحركة تمرّد الحوض المنجمي في سنة 2008 حيث لم يكن الفايس بوك بذات الانتشار الذي رافق حركة 17 ديسمبر 2011.
وربّما يبقى مثال الصورة التي قام الشباب بتنزيلها على الشبكة على أساس أنها صورة محمد البوعزيزي مفجّر الثورة وهو يحترق، ثمّ تبيّن لاحقا أنها صورة لشاب آخر مستخرجة من الانترنت، ولكنها وضعت قصدا من الشباب رغبة في تقريب هول مشهد وصورة الانتحار الاحتجاجي لعموم الناس، والملمح العام الذي اصطنعه شباب الفايس البوك لشخص البوعزيزي (على أنّه شاب حامل لشهادة عليا وعاطل عن العمل)، وكان أبناء عمومته يدركون أنه ليس كذلك، ولكنهم أصرّوا على صناعة ذلك الملمح العام مترافقا مع مشهد الشاب وهو يحترق ليبرزوا من خلاله جسامة معاناة أكثر من 200 ألف عاطل عن العمل حينها وحامل لشهادة عليا، وليستفزوا بذلك مشاعر كلّ من يتصل بتلك المعاناة وبذلك الملمح العام من قريب أو من بعيد . ونظرا لبراعة "الباث" للصورة ولذلك الملمح العام التقط "المستقبل" المستهدف بها الرسالة وانطلقت بذلك لحظة كسر حواجز الخوف المعطّل لتحرّك الناس والتحاقهم بالشارع ومطالبتهم بإسقاط نظام أهان المتعلّم ويئس فيه صاحب الشهادة العلمية ورخُصت فيه النفس عند صاحبها.
بناء على ما تقدّم يبقى من المؤكّد القول أنه بات جليّا بأنّ منابر التواصل الافتراضي عكس كلّ ما يمكن أن يقال عن تداعياتها السلبية على الشباب يمكن أن تكون وسائل حضاريّة قابلة للاستخدام المجدي وللتوظيف الحسن في خدمة عدد من القضايا الملحة للشعوب والثقافات والأفراد. فأي دور يمكن أن تلعبه تلك المواقع في مجال التلاقح الحضاري بين شبابنا العربي وبين شباب الحضارات والثقافات الأخرى؟ وأيّ فرص يمكن أن تفتحها تلك المنابر في باب حوار الأديان ورفد التفاعل الايجابي مع الآخر بغاية كسر المنمّطات الثقافية والصور السلبيّة الرائجة حول الهويّة العربيّة والإسلامية لدى ذلك الآخر.

ثانيا: :الشباب ومواقع التواصل الاجتماعي وقضايا حوار الأديان: قراءة في الواقع الراهن
حريّ بنا في المستهل، وقبل الحديث عن إمكانات ومستقبل التوظيف الايجابي لمواقع التواصل الاجتماعي في خدمة قضايا حوار الأديان والتفاعل مع الآخر، الوقوف عند بعض الملاحظات المتصلة بواقع ومدى حضور مثل تلك القضايا اليوم في مشهد استخدام شبابنا العربي لمواقع التواصل الاجتماعي:
1- الشباب وقضايا الدين والتواصل الالكتروني المتشنّج
يكتشف المتابع لبعض مواقع الدردشة والتواصل الاجتماعي والمدونات وصفحات الفايس بوك، أن تطارح القضايا الدينية بين الشباب المتواصل يظلّ حاضرا بارزا من بين مختلف وسائر القضايا الأخرى، بالرغم من أنّه يبدو في بعض الحالات أكثر اتصالا بالرهانات السياسية خاصة في حالة تونس. ويصحّ ذلك بغضّ النظر عن المتحاورين وعن فحوى المواضيع والقضايا الدينية المطروحة. ويكتشف الدارس أن النبرة المتشنجة تظلّ السمة الأساسية الغالبة على لغة التواصل. ويبدو التعصّب للمواقف بغض النظر عن الحكم لها أو عليها السمة الأبرز لتك اللغة. ومن خلال استقصاء بعض النماذج عن ذلك التواصل الالكتروني في حالة تونس ودراسة بعض مواقف وردود أفعال الشباب في مواقع التواصل الاجتماعي على حوادث معينة ذات الصلة بالمساس بالدين الإسلامي (مثل حادثة الفيلم المسيء للإسلام "لا ربي ولا سيدي" للمخرجة التونسية ناية الفاني) تبدو المواقف في عمومها متسرعة تلتمس السب والشتم واستخدام الكلام البذيء للتشهير بصاحبة الفيلم كلّ من ناصرها، وتغيب في كلّ ذلك الحجة وإقامة البرهان والتحليل الدقيق والرد المقنع عن الفيلم أو عن صاحبته أو المروجين له. وتبدو بذلك لغة الحوار وأدبياته ذات الصلة بالشأن الديني بنظرنا شبه معطلة بين طرف يغالي في التعدي على حرمة الدين والإساءة له بأي شكل من الأشكال، وطرف يدافع عن تلك الحرمة ولكن بأساليب تسئ إلى الدين أكثر مما تروّج له أو تخدمه في شيء. ويبقى هذا الانطباع سيّد الموقف في أغلب آراء المتواصلين على الشبكة في المواضيع الدينية المختلفة ويحفل الفايس البوك بوجهه التونسي بمئات الصفحات المتفننة في الإساءة للغير بطرق غير حضارية من هذا الطرف أو ذاك. وتتعدّد بعد ثورة تونس الأمثلة على ذلك وتشهد صفحات الفايس بوك بذلك الجدل العقيم والتراشق المقيت بالألفاظ النابية بين المتواصلين حول القضايا الدينية المستجدة ويمكن كذلك ذكر حوادث الاعتداء على بعض قاعات السينما، أو الإثارة المتعمدة من قبل البعض لقضايا النقاب أو الإرث أو غيرها. وإذ لا يفوت الدارس في مثل هذه الحالة التفطّن لتعمّد إقحام الدين في معارك السياسة من طرف بعض الأطراف في تونس وما يثيره كلّ ذلك من متعلقات أخرى ذات صلة بواقع الانتقال الديمقراطي ورهاناته المستقبلية والصراع الدائر حول مستقبل حكم البلاد ، فإنه لا يفوتنا كذلك ضرورة التنديد بمثل تلك المزالق التي سرعان ما يتورط فيها شبابنا بغير وعي وبنوايا حسنة تنطلق ممّا تعكسه مراحل الشباب من إيمان راسخ بالمبادئ العامة وتبلور القناعات الشخصيّة. ويغيب في كلّ ذلك وضمن الفضاء الافتراضي المفتوح التدخّل المدروس لحسن إدارة ذلك الحوار وتوجيهه التوجيه الحسن خدمة لإذكاء روح التحاور البناء ونبذ التعصّب الأعمى. هذا عن أبناء الوطن الواحد والدين الواحد لكن ماذا عن حضور قضايا الحوار بين الأديان وإشكالية التفاعل مع الآخر مع أبناء الديانات والحضارات والثقافات المختلفة.
2 - تواصل شبابي محدود المدى
تفصح مواقع التواصل الافتراضي وبعض صفحات الدردشة على الشبكات الاجتماعية العربيّة عن هيمنة التواصل بين الشباب العربي فيما بينه في غياب لافت لحضور التواصل مع الأجنبي ومع الشباب غير العربي. وتبقى الصداقات الالكترونية العربية الأجنبية نادرة على صفحات الشباب العربي. وقد أبدت لنا بعض المحادثات الفرديّة التي قمنا بها مع عدد من الشباب المستخدم للفايس بوك في تونس، إن تواصلهم الالكتروني مع الأجنبي إن حدث يحدث أساسا مع بعض الشباب المتكلّم باللغة الفرنسيّة. ويحدث غالبا مع شباب تربطهم بهم علاقات سابقة في الواقع بحيث يكون التواصل عبر الفايس بوك امتدادا لتلك العلاقة الواقعيّة. أمّا عن التواصل الافتراضي المحض مع شباب أجنبي فإنّه يسجّل حضوره بشكل أبرز لدى فئة من الشباب التونسي الحالم أساسا بالهجرة إلى خارج الوطن، فترى تلك الفئة هي الأكثر تهافتا على ربط صلات افتراضية يقيمها الذكور خاصة مع بعض الأجنبيات أملا في تحقيق حلة الهجرة.
ومن المفيد القول أنّه في الوقت الذي يسجّل فيه نسق التواصل ووتيرته ارتفاعا لافتا بين أبناء البلد الواحد في المقام الأوّل، وبين الناطقين باللغة العربية من بلدان عربية مختلفة في المقام الثاني، يبقى ضعف نسق التواصل بين الشباب العربي ونظيره الأجنبي عبر الشبكات الاجتماعية ظاهرة لافتة تستدعي مزيد النظر والتدقيق. وما من شكّ فيه أن لغة التواصل تظلّ عنصر تحليل مهمّ لا يمكن تجاهله عند الحديث عن يسر أو تعطّل أشكال الحوار بين الأديان والتفاعل مع الآخر عبر الشبكات الاجتماعيّة. و لا بدّ من القول بأن اللغة تطرح مشكلا كبيرا في إعاقة سائر عمليات التواصل التلقائي بين الشاب العربي ونظيره الأجنبي، وتكون بذلك عقبة فعلية في تحقيق التفاعل بين الشباب. لاسيما في غياب تكنولوجيات حديثة فعالة في مجال الترجمة الفورية الموثوق بها على الشبكة، وفي ظلّ واقع تردّي مكتسبات شبابنا من اللغات الأجنبية. وهو كما هو معلوم أمر واقع رصدته العديد من التقارير والدراسات الإقليمية والوطنية، التي بينت أن إتقان اللغات الأجنبية يظلّ إشكالا جليّا لدى شبابنا، ليس فقط لدى الشرائح الشبابية المحدودة المستوى التعليمي بل حتى لدى هؤلاء ذوي المستويات التعليمة المتقدمة. وتطرح بذلك اللغة عقبة فعليّة معيقة لتحقيق التواصل الفعال والبناء بين الشباب العربي والشباب غير المتكلّم باللغة العربية عبر الشبكات الاجتماعية.
ويثير موضوع اللغة المستعملة في الفضاء الرقمي والموظفة في عمليات التواصل الاجتماعي العديد من الإشكالات التي قد لا يتسع المجال لطرحها ونكتفي في هذا المقام بالإشارة إلى ما تتعرض له اللغة العربية تحديدا من تعدّي صارخ أضحى يمزج بينها وبين ألفاظ هجينة بعضها أجنبي وبعضها من اللهجات المحليّة العاميّة، وبعضها مستوحى من "لغة/استعمالات" موازية أضحى شباب الفايس بوك يصطنعها ويعمّم استخدامها. وتنتشر اليوم على مواقع التواصل كلمات غربية تمتزج فيها الحروف بالأرقام ويتداخل بها الحرف العربي مع الحرف اللاتيني ومع الأشكال والمجسمات.


3- في حالة وحدة اللغة واختلاف الدين: تواصل الكتروني غير جدّي وضعيف المحتوى.
في جولة سريعة لبعض المواقع الاجتماعية محاولة لاستقصاء مدى حضور مجال الحوار بين الأديان كموضوع أساسي في عملية التواصل والدردشة التي تحصل بين شبابنا العربي. أحصينا مثلا على موقع الفايس بوك بضعة عشرات من الصفحات التي حمّلها أصحابها عناوين ذات صلة مباشرة بالموضوع وبالرغم من أن المعطيات المتوفرة حول المشرفين على تلك الصفحات قد تكون غائبة أو مظللة بحيث لا تجعل الدارس يجزم بعمر القائم على الصفحة أو المشرف عليها، قد تتأكد عبر دراسة محتوى بعضها فرضية ارتباط تلك الصفحات ومشرفيها بفئة الشباب أكثر من غيرها من الفئات الأخرى.
ولعلّه من المفيد الإشارة في هذا السياق إلى أن موضوع الحوار بين الأديان وسائر المفاهيم القريبة الصلة منه كالتقريب بين المذاهب أو الحوار بين الحضارات أو التلاقح الحضاري أو الثقافي، تبقى مواضيع تحتلّ مكانة أهمّ في بعض المدونات الالكترونية الأخرى على الشبكة خاصة بمواقع قوقل واليوتوب ومكتوب. وهي مدونات تكون عادة لشخصيات دينية أو أكاديمية معروفة. وبالرغم من الإشارة إليها في هذا المقام نعتقد أنها تبقى –على أهميتها- منتديات تحاور نخبويّة تمسّ بالأساس شرائح فكرية وأكاديمية، وهو ما يستبعد فرضية الإقبال المكثّف لعموم الشباب عليها والدخول إليها والتحاور ضمنها.
إذا بالإشارة إلى تفحّص بعض تلك الصفحات العربيّة المتوفرة حول حوار الأديان في موقع الفايس بوك يمكن إبداء الملاحظات التالية:

1- يسجّل كلا من الدين الإسلامي والديانة المسيحية الحضور الأبرز في محاورات الشباب المتحاورين، ويغيب ما عدا ذلك من الديانات السماوية الأخرى.

ويرجعنا هذا الاستنتاج إلى عنصر انحصار مدى التحاور وأهمية دور اللغة في تنمية ذلك المدى. فالمتتبع يكتشف أنّه في حالة تطرّق المتواصلين عبر الشبكة إلى تحاور فعلي بين شباب من ديانتين مختلفتين كالإسلام والمسيحيّة، فإن ذلك التحاور يظلّ مبتورا بما أنّه لا يشمل غير المسلمين والمسيحيين المتكلمين باللغة العربية، ويُقصى جدلا من ذلك الحوار أتباع الديانتين وخاصة المسيحيّة من غير المتكلمين باللغة العربيّة. وهو ما يجعل من ذلك التحاور في الغالب يدور بين المسلمين والمسيحيين العرب الذين يبقى الحوار بينهم برأيي ترفيّا بما أن التعايش بينهم في الأرض العربية حاصل بطبعه، ويكاد يكون التآلف بينهم في مختلف البلاد العربية الطابع الأبرز لعلاقاتهم الاجتماعية الرابطة بينهم وبين أشقائهم العرب المسلمين. أمّا الحوار الفعلي والملحّ في باب الحوار الإسلامي المسيحي يبقى برأيي ذلك المتصّل بالمسيحيين من غير العرب ومن أبناء الجنسيات الأخرى والمجتمعات التي تقلّ فيها نسب التعايش بين الديانتين وتطرح على الأقليات المسلمة التي تعيش فيها كمجموعات المهاجرين بالبلدان الأوروبية مشاكل اجتماعية وثقافية لا حصر لها.

2- يتسّم التحاور الإسلامي المسيحي عبر عدد من تلك الصفحات بالكثير من تعصّب كلّ طرف لفائدة ديانته، ويبقى التحاور المتشنّج سمة ذلك التواصل الالكتروني بما يستبعد لغة الحوار الهادف والرصين، ويتحوّل التحاور إلى شبه حلبة صراع تتمسرح ضمنها عملية استعراض العضلات وإبراز محاسن هذا الدين أو ذاك مقابل البرهنة والتفنن في بيان دونية وانحطاط هذا الدين أو ذاك.
3- يسجّل المتابع كذلك غياب اتجاه المتحاورين من الشباب إلى إرساء تعارف وتقارب حقيقيين بين الديانتين، حيث لا تعكس السجالات رغبة حقيقيّة في الإطلاع على فحوى الدين المقابل، ومعرفة مدى اهتمامه ببعض المسائل بعيدا عن الانطباعات والأفكار المسبقة، بقدر ما تسجّل الحوارات تبادل التهم والسبّ ومحاولات الحطّ من قيمة هذا الدين أو ذاك عبر استعراض المواقف السخيفة والأفكار الشائعة والمتداولة لدى العموم.

ثالثا: تفعيل وسائل التواصل الاجتماعي في خدمة قضايا حوار الأديان والتفاعل مع الآخر
بناء على ما سبق ذكره يمكن القول بأن مواقع التواصل الاجتماعي فتحت فضاء أرحب للتواصل بين الشباب ومكنت من خلق فرصة متجددة لتبادل الآراء وتمتين الصلات بين الشباب من أبناء الدين الواحد والحضارة الواحدة وكذلك الحال بين الديانات والحضارات المتباينة. ولكن تلك المواقع في نفس الوقت أضحت مجالات منفتحة الزوايا بعيدة عن كل سيطرة أو محاولة رقابة. وهو ما فسح المجال لذوي المآرب المختلفة للتوظيف السلبي لها وبثّ الفتن وخلق الفوضى وزعزعة القناعات. وغالبا ما يكون الشباب (بوصفه المستخدم الأكثر لتلك المواقع) المستهدف الأكبر بتلك المحاولات، وغالبا ما يكون الدين (بحكمه من أكثر المجالات حساسية للمساس بعقائد البشر وهوياتهم الفردية والجماعية) الآلية/المطية الأسهل لتحقيق تلك المآرب والممارسات.

ولا يتطلب الدارس كثير العناء لتبيّن ممارسات تعمّد الإساءة لبعض الأديان ولا سيما للإسلام بشكل خاص وهو ما أضحى أكثر بروزا بعد حوادث 11 سبتمبر، وبعد انتشار أفكار صدام الحضارات وانبثاق الحرب الدوليّة لمكافحة الإرهاب. وتظلّ موجات العداء للدين وافتعال التناقض والتصادم بين الأديان والافتراء وتعمّد الإساءة واضحة في عديد من المواقع والمدونات الشخصية على الشبكة، وينساق الشباب العربي بوعي أو بغير وعي وراء تلك الدعوات المظللة للتصدي أو لنصرة هذا الدين أو ذاك. وتتحوّل بمقتضى ذلك بعض مواقع التواصل الالكتروني إلى مسارح للسخرية من الأديان والاستهتار بعقائد الناس وابتذال أهمّ مقومات انتمائهم وركائز هوياتهم.
ويطرح هذا الوضع على مائدة الدرس إشكال التدخّل ومراقبة ما يجري داخل الشبكة وسبل التصدي لحملات تشويه الأديان وبث أفكار التصادم بينها، وما قد تخلّفه الأوضاع من توترات اجتماعية فعليّة تهدد توازن الأفراد والمجتمعات. ويدفع الجميع نحو التفكير والبحث عن سبل إرساء استخدامات رشيدة للشباب لتكنولوجيا المعلومات والاتصال في ضوء الضوابط والمرجعيات القيميّة والحضارية لمجتمعاتنا، وبما يدحض التصورات المرضيّة والمعتلة لدى الشاب في مجال العلاقة بين ومع الأديان، ويعمل على إرساء تصوّر ايجابي يؤسس لفهم أفضل ولعلاقة متوازنة في ذهن الناشئة والشاب العربي مع الأديان ومع المختلف من العقائد.
وما من شكّ أن معطى اقتحام استخدام الانترنت بشكل مكثّف من طرف الشباب في أغلب البيوت العربيّة أضحى يتطلّب من المجتمعات والأسر استحداث أنماط مستجدة من التربية والتنشئة المتلائمتين مع طبيعة ذلك المعطى والمتناسبة مع سبل تعاطي شبابنا معه. وترتهن نتائج تحقيق ذلك بتضافر الجهود الجماعية لمختلف قنوات التنشئة الاجتماعية من أسرة ومدرسة ووسائل إعلام في اتجاه التحصين المبكّر للشاب ضدّ ممارسات الاستهانة بالأديان الأخرى والحط منها، والنشر في مقابل ذلك لثقافة الحوار بين مختلف الأديان والحضارات والبلدان، والعمل على تطوير سبل التربية على التسامح ودعم قيم احترام حرية المعتقد و حقوق الإنسان والتشبع بقيم وثقافة الأخوة والتعايش الإنسانين. ولا شكّ أن الأسرة ونظم التعليم في البلاد العربيّة تحتاج اليوم أكثر من أيّ وقت مضى إلى مراجعة جديّة لمسارات إنتاج وإعادة الإنتاج الاجتماعي لقيم التسامح وقبول الآخر ومبادئ التعايش السلمي بيننا كمسلمين وبين غيرنا من أصحاب الديانات الأخرى.

ويمكن القول ختاما إن التعاطي المتأني والمدروس لسبل تفعيل استخدام الشباب لمواقع التواصل الاجتماعي خدمة للحوار بين الأديان وتنمية التواصل مع الآخر يفضي إلى التأكيد على محورية العمل الجماعي لسائر الأطراف المجتمعية من باحثين ودارسين وحكومات وأصحاب قرار وهياكل خاصة ومؤسسات مجتمع مدني على الاجتهاد في:
أوّلا: تشخيص علمي أدق لواقع ومدى حضور إشكالات الحوار بين الأديان والتفاعل بين الثقافات والحضارات في المواقع الالكترونية، ومراكمة البحوث والدراسات العلميّة المستقصية لحضور قضايا حوار الأديان في مواقع التواصل الاجتماعي وأشكالها، ورصد الاتجاهات العامة لمحاورات الشباب حول مثل تلك المواضيع والقضايا.
ثانيا: استحداث طرق تدخّل أجدى لتطوير المشهد التواصلي في مجال حوار الأديان والتفاعل بين الحضارات، والتوجيه الرشيد لطاقات الشباب الكامنة نحو المساهمة الايجابية في مشهد صناعة المواقع والصفحات الالكترونية الموجهة لخدمة قضايا حوار الأديان ونشر ثقافة التسامح ونبذ العنف.
ثالثا: تطوير المحتوى العربي ذي الصلة بقضايا الحوار بين الأديان وبقيم الإسلام وسماحة تعاليمه على شبكة الانترنات ( باللغة العربية وباللغات الأجنبية) من أجل كسر الصور النمطيّة المسيئة للعرب والمسلمين من جهة، وتغذية مكتسبات الشباب العربي ومدّه بمادة الكترونية متوازنة تعزّز الانتماء الحضاري دون تطرّف وتقوقع على الذات من جهة ثانية، وتحفزه على مدّ جسور التواصل الحضاري الفاعل مع أقرانه من شباب العالم بكلّ ثقة واعتزاز بالجذور ودراية كاملة بمقومات الهويّة والانتماء من ناحية ثالثة.
رابعا: العمل على تطوير أشكال وأساليب علميّة لمتابعة تعاطي وحضور الشباب العربي في شبكة الانترنت إنتاجا واستهلاكا، ومراقبة ما يروج في الشبكة حول الحضارة العربية الإسلامية من صور وتمثلات.
خامسا: البحث عن سبل أجدى لتمرير نظمنا التعليمية لقيم التسامح والتعايش السلمي وقبول الآخر وغرسها لدى الناشئة في مراحل التعليم المختلفة، وحفز المؤسسات التعليمية على الاضطلاع بأدوار أكثر إيجابية في توجيه اهتمام التلاميذ والطلبة نحو المواقع المفيدة وتغذية روح المبادرة والإقدام على صنع المادة الرقميّة النابذة للعنف والتطرّف ورفض الآخر، والمساهمة في حركة نشر وترويج المحتوى ذي الصلة بتلك القيم على الانترنت، والانتباه إلى مؤامرات بث الفتن وافتعال التناقض والصدام بين الأديان والحضارات من قبل بعض المواقع والصفحات.

   
يفتتح مؤتمر الدوحة التاسع لحوار الأديان أعماله الاثنين 24 أكتوبر في فندق الشيراتون في الدوحة، قطر، باشتراك أكثر من مئتي شخصية دينية و أكاديمية من خمسة و خمسين بلداً.
يتطرق المؤتمر هذه السنة إلى موضوع تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الحوار بين الأديان، عبر جلسات وورش عمل تمتد لثلاث أيام متواصلة.
يعقد مؤتمر الدوحة التاسع لحوار الأديان بإشراف مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان و اللجنة الدائمة لتنظيم المؤتمرات
.
تنبيهات بريدية  
للحصول على آخر الأخبار والتحديثات من فضلك أدخل عنوان بريدك الإلكتروني