الصفحة الرئيسية  |  البرنامج   |   المشاركين  |  الأخبار |   الكلمات   |   ألبوم الصور   |  الفيديو   |  في الصحافة   |   مواقع مهمة   |  اتصل بنا
   

 وسائل التواصل الإجتماعي وحوار الأديان.... نظرة إستشرافية
 الباحث: د. عبد الإله ميقاتي
 موضوع البحث: كيفية إعداد وتأهيل الأفراد دينياً لإستخدام مواقع التواصل الإجتماعي في نهضة المجتمع التنموية

المقدمة:
بداية كل الشكر والتقدير لمركز الدوحة الدولي لحوار الأديان على تنظيم هذا المؤتمر وما فيه من محاور مهمة، وما فيه من مشاركين وباحثين مهتمين، هدفهم جميعاً، هو السلام العالمي ونبذ التطرف والغلو، ونشر ثقافة المعرفة وبناء الحضارة الإنسانية وعمارة الأرض.
لا شكّ أن ثورة التكنولوجيا والإتصالات الحديثة قد حقّقت إنجازاتٍ ضخمةً جدّاً على جميع الصعد ومنها وسائل التواصل الإجتماعي ونشر المعرفة بسرعة خياليّة، وقد أثّرت بشكل مباشر في جميع ميادين الحياة، وصولاً إلى تغيير الأنظمة السياسيّة والعلاقات الإقتصاديّة والإجتماعيّة وغيرها.
وما مؤتمرنا اليوم، إلا دليلٌ واضحٌ على أهميّة الموضوع، وكيف لنا أن نستشرفَ أَثَرَ هذا التواصل على حوار الأديان، خصوصاً وأن التربية الدينيّة غالباً ما تطبع الإنسان في أخلاقه وممارساته وسلوكه، وفي تواصله مع الآخرين، وكيف يجب علينا أن نعدّ الأجيال الصاعدة لهذا الأمر،على طريق نهضة تنموية شاملة، خصوصاً، وأنّ مقوّمات النجاح لا تبدو بعيدة المنال.

المنطلقات:
إنّ نظرة علميّة تحليليّة للواقع الحاليّ تجعلنا ندرك أن:
• جميع الشرائع السماوية تدعو إلى الإيمان بالله، خالق الكون، كما تدعو إلى الإيمان بالملائكة والكتب السماوية والرسل، واليوم الآخر، والحساب بعد الموت، والقضاء والقدر، خيره وشرّه، كما تدعو إلى القيم والأخلاق السامية من برّ بالوالدين، ومن صدقٍ وإخلاص، وحلمٍ وعلم، وحريةٍ وشجاعة، وعدلٍ ومساواة، وصبرٍ وحياء، ورفقٍ وأناة، وأمانةٍ ووفاء، وجودٍ وإحسان، وتواضعٍ وقناعة، ورحمةٍ وعفة، ومواخاةٍ وإيثار، وأدبٍ ونظافة،....
• جميع الشرائع السماوية تدعو إلى الإيمان بالتعددية، وبحق الإختلاف، وأهمّيّة الحوار وقبولٍ للآخر، كما تدعو إلى الفكر المنفتح، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. وهذه القيم هي معانٍ إنسانيّةٍ كرّستها وأكّدت عليها جميع الشرائع السماوية، فهي ليست حكراً لشريعةٍ دون أخرى، أو دولةٍ أو نظامٍ دون آخر، كما أنّها ليست سمةً لحزبٍ دون آخر، أو حضارةٍ دون أخرى. بل هي قيمٌ مشتركةٌ أقرّتها الفطرة الإنسانية التي فطر اللهُ الناس عليها، يحسن تحديدها وآليات تطبيقها ونشرها بين الناس.
• اللهَ تعالى خلق الإنسانَ من روحٍ وجسد، وميّزه عن سائر المخلوقات بالعقل. فالروح غذاؤها التربية الدينيّة، أما الطعام والشراب فهما غذاءُ الجسد، وأما العقلُ فغذاؤه العلم، ونتاجه العمل ومزيدٌ من العلم والمعرفة.
وإذا كان العقل ينمو مع نموّ صاحبه ويشيخ معه، ثم يموتُ معه أيضاً، فإنّ نتاج العقل من علمٍ وعملٍ، يبقى بعد موت الإنسان، ليتراكم نتاجُ البشرية جمعاء. وإذا كان علمُ الإنسان وعملُه خيراً فخير، ونِع̊مَ وبها، وإذا كانا شرّاً فشرّ، والعياذ بالله. تلك هي مسيرة الحضارة الإنسانية عموماً، صراعٌ متواصلٌ بين قوى الخير وقوى الشر.
• إن التطور المذهل في عالم التكنولوجيا والإتصالات، والسرعة الخيالية في التواصل ونشر المعرفة لا يشكّل، في حقيقة الأمر، سوى أدواتٍ متطورة، تقود إلى الخير، كما تقود إلى الشرّ. وبالتالي، فهي تساعد في نشر الثقافة والفكر والأخلاق والمبادئ السامية، والقيم والعلوم الإنسانية وغيرها والتي، بدورها تساعد في بناء الحضارة الإنسانية في مسارٍ سليم، وعلى طريق الخير. كما يمكن من خلالها نشر الرذيلة، والعنصريّة الذميمة، والعلوم والمعارف المدمّرة والإحتكار الإقتصاديّ المجحف، وما يؤدي إلى هدمٍ وتقويضٍ للحضارة الإنسانيّة عموماً، على طريق الشر.
محاور الإعداد والتأهيل:
وليكون نتاج العقل موجَّهاً نحو خير البشرية، ويخدم مسيرة الحضارة الإنسانيّة السليمة، ولتساهم مواقع التواصل الإجتماعي في نهضة المجتمع وتطوره وتنميته وسلامه ورقيّه، لا بد من مراعاة ما يلي:

أ‌- التربية الدينيّة والإعداد السلوكيّ:
إنّ إعداد وتأهيل الأجيال الناشئة للحوار الدينيّ الهادف والسليم، يجب أن يبدأ بالتربية الدينيّة، وتغذية الروح الإيمانيّة عند الأطفال، منذ السنين الأولى من عمرهم. ذلك أنّ هذه التربية الدينيّة دائماً أيسر طريقاً، وأقوى مستقراً وأعمق أثراً من العلوم الأخرى.
يقول تعالى في سورة الرحمن: "الرحمن* علّم القرآن* خلق الإنسان* علمه البيان" فهذه السورة تبدأ بأحبّ الأسماء الحسنى، بعد لفظ الجلالة، "الرحمن"، الذي بفضل رحمته الإنسان، علّمه القرآن أولاً، ثم علّمه البيان، تالياً. فإذا ما تربى الإنسان مقرّاً بأنّ علمه ليس إلا فيضاً ونعمة من خالقه، وكان تعلّمه القرآن والعلوم الدينية الأخرى بما يتناسب مع عمره – مع التأكيد على تعلّم القرآن في الصغر، وتيسيره للحفظ عند الصغار – سابقاً لما سواهما، فإنّ هذا العلم سيكون له أثر كبير في توسيع مدارك الأطفال، وتقوية ذاكرتهم، وتعويدهم الحفظ وشدّة الملاحظة.
أضف إلى ذلك، أنّ القرآن الكريم والحديث النبويّ الشريف، يمثّلان أعلى أنواع الحكمة والبلاغة، والدعوة إلى طلب المزيد من العلم، وإقامة الحجّة والبرهان. كما أنّ في القصص القرآنيّ، دروسٌ وعبرٌ بالغة، لا يملّ القارئ من تكرارها وإستنباط المواعظ منها في مختلف مراحل العمر. وفي القرآن والسنّة، تشريعٌ ربانيّ لخير الناس أجمعين، فإذا أتقن الأولادُ حفظَهما منذ الصغر، كانا لهما زاداً مدى العمر، يحتكموا إليهما، ويتزودوا منهما في كل ما يعترضهم من أمور حياتية، وعند كل منعطف وإستحقاق. "ومن شبّ على شيء شاب عليه".
يُضاف إلى ذلك، بأنّ اليسر في زرع بذور الإيمان السليم في نفوس الناشئة، يساعد في إعدادهم السلوكيّ، بيسرٍ وسهولةٍ.
فتعويدُ الولد على نبذ الكذب والغشّ والسرقة، لكونه حراماً يستوجب عقاب الله في الآخرة، أسهل من شرح مساوئ هذه الخصال الذميمة، وأثرها السيّء في المجتمع، وما يستوجبه ذلك من مستوىً معينٍ من المعرفة المجتمعيّة والعلاقات الإجتماعيّة، حتى يُنكر الولدُ الكذبَ وينتهي عنه.
يُروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "علّموا أولادكم الصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر". أي أنّ تربية الولد تبدأ مع بلوغه السبع سنين، وبالقياس إلى تعليم الصلاة، تكون التربية على مكارم الأخلاق، وأدب المعاملة، وحسن المعاشرة و....... وفي مثل هذا السياق يقول الإمام علي بن أبي طالب – كرّم الله وجهه - : "لاعبوهم لسبع، وأدّبوهم لسبع، وصاحبوهم لسبع، ثم اتركوا لهم الحبل على الغارب".
يقول الإمام الغزالي رحمه الله: "الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرةٌ نفيسةٌ ساذجةٌ خاليةٌ من كلّ نقشٍ وصورة، وهو قابلٌ لكل ما نُقش، ومائلٌ إلى كلّ ما يُمال إليه، فإن عُوّد الخير وعُلّمه،نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة.....". تلك هي البداية: عجينة بين يدي الخبّاز يقلّبها كيف يشاء.
وفي مرحلة التأديب وبعدها، ينطلق الأولاد إلى العلوم الأخرى، ليتجلى الإبداع عندهم وليكونوا روّاداً مجلّين في مختلف العلوم ونواحي الحياة.
من ناحيةٍ أخرى، فإنّ البدء بالتعليم الدينيّ من حفظٍ للقرآن الكريم، والسنّة النبوية الشريفة، وتدبرٍ لهما، قد يساهم في إرتباطٍ وثيقٍ بين علوم الدين عموماً، والعلوم الأخرى، وعندما إلتزم علماء المسلمين بروح القرآن والسنة المطهرة، قاموا بإحياء التراث اليوناني، وعانقوا الحضارة الفارسية، ونقلوا ما رأو̊ه مناسباً من الحضارة الهنديّة والتقنيات الصينيّة، واقتبسوا منها جميعاً، ما يتماشى مع عقيدتهم الإسلاميّة مضيفين إليها ما في وسعهم.
فكان لكلّ هذا الأثر الكبير، في قيام النهضة العلميّة السليمة، وإسهامها في تكوين الحضارة الإنسانية وفي خدمة البشرية جمعاء.
وعندما أقبل طلبة العلم من أوروبا، إلى بلاد المسلمين، وأدركوا أهمّيّة هذا التأسيس والإرتباط الوثيق بين التربية الدينية والتعليم، عادوا إلى بلادهم يحملون هذه الثقافة، وسارعوا في إنشاء الجمعيات الدينية التي إنبثقت عنها المعاهدُ والمدارسُ والجامعاتُ في أوروبا وخارجها، وعُرفت̊ بالإرساليات الدينيّة والمدارس التبشيريّة (كالجزويت والفرير، وغيرها).
لا شك أنّ هذا التلازم وهذا الإرتباط الوثيق بين التربية الدينية وطلب العلم، مع البدء بالتربية الدينية أولاً، كان يشكّل خاصّيّة مميَّزة من خصائص التربية والتعليم في فجر الإسلام، وهو الذي شكّل الأساس المتين والإنطلاقة القوية للحضارة الإسلاميّة، التي طبعت مسيرة الحضارة الإنسانيّة لعشرة قرون من الزمان، وأسست لما بعدها من الحضارة الغربية.
هذا التلازم، بدأ يتلاشى اليوم في الغرب، ولعل ما نشهده اليوم من بُعدٍ عن الدين، وهجرٍ لإرتياد الكنائس والمعابد في أوروبا، بل وبيعها أحياناً، لتتحول إلى قصور أو متاحفٍ أو إقفالٍ دائم. كلّ ذلك يأتي، والعالم أحوج ما يكون إلى صحوة دينيّة شاملة، خصوصاً وأنّ أبواب المعرفة أصبحت مفتوحة على مصراعيها، وعلى كل ما فيها من خيرٍ وشر. وخصوصاً أيضاً أن إستعمالات الشبكة العنكبوتية تشير إلى ما نسبته 70 % من إستعمالات هذه الشبكة هي على طريق الشر وما فيها من مواقع عنفٍ وإباحيّةٍ، وكذبٍ وتلفيقٍ وإدعاء. وهذا يجعل من أهميّة التربية الدينيّة في المراحل الأولى من العمر أساساً وضابطاً وموجهاً للولوج إلى مواقع التواصل الإجتماعي.
وإذا كانت التربية الدينية السليمة، المبنيّة على الوسطيّة والإعتدال، بدون إفراطٍ أو تفريط، أو غلوّ ٍ أو تقصير، هي الضابط والموجّه، فإن التخلّي عنها، يجعل الولد مُحاطاً بكل أنواع المعرفة، خيرِها وشرّها. فيكون دخوله إلى عالم المعرفة، كالولد ينزل إلى الشارع، بدون حصانة أو رقابة، فيلتقي بأقرانه، وهم على درجاتٍ متفاوته في الأخلاق والسوك، فيشتبك مع هذا ويلعب مع ذاك، ويرافق الآخر. وهو لا يدري إلى أين ينتهي به المطاف، لأنه لا يملك بعد، قواعد القياس، ولا علم المعايير أو مبادئ التصنيف، ليختار لنفسه ما يصلح لها. ويكون الدخول على رفقاء السوء أكثر إحتمالاً لأن النفس البشرية الأمارة بالسوء، تستهويها ما يغذي غريزتها، بلا حدود معلومة أو خطوط حمراء معينة، وبلا رقيب أو حسيب، فتقع في المحظور. لذلك وجب أن تسبق التربيةُ الدينيةُ العلمَ، كما يسبق العلمُ العملَ.
أضف إلى ذلك، أن الإنحراف والإسراف في الدخول على المواقع التشاركية، قد يؤدي بالإنسان، وخصوصاً في عمر الشباب، إلى الإدمان. وهذا ما يحرمه من إيجابيات التواصل الإجتماعي المباشر الذي لا يمكن الإستغناء عنه، ولا إستبداله بالتواصل الإلكتروني، مهما تقدم هذا الأخير، لأن الإنسان خُلقَ مفطوراً على التواصل والتعاون. وسمّي الإنسان إنساناً لأنه يأنس بمن حوله.
ولكن ذلك وحده لا يكفي، إذ يجدر بالمشارك في هذه المواقع أن يملك تدريجياً، من العلوم والمعارف، ما يجعله يملك القدرة على المشاركة وبالمستوى المطلوب ، كما أنّ رفع المستوى المعرفي للمشارك في هذه المواقع يستوجب تنميةً لثقافة الفكر الوسطي المنفتح وما فيه من إيمان بالتعدديّة وحقّ الإختلاف وقبول الآخر ودعوةٍ للتواصل الفكري والإجتماعي معه. كما يستوجب عمليّة إصلاحٍ للتعليم – في عالمنا العربي – ومكوناته بما يتناسب مع تطوّر العلوم وروح العصر، وبناء آليّة المعرفة في شخص المتعلم.

ب‌- تنمية ثقافة الفكر الوسطي
الوسطية صفة من صفات الفكر الإنساني والسلوك البشري، ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم، وإختص بها الأمة عموماً ووصفها بها حيث يقول في سورة البقرة، الآية رقم 143: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس). ويقول إبن قيّم الجوزية في شرحه لهذه الصفة، بأنها: "صفة للأمّة بأنّها تبقى دائماً في إطار الحقّ والعدالة، فلا تتعداهما، وهي تجري وراء الحق عند أية طائفة، فتأخذه، ولا تعاديها بسبب ما عندها من الباطل، وتضيف الحقّ الذي تقتبسه من هنا وهنالك إلى شخصيّتها ويكون صاحبها كالحاكم العادل الذي يشهد على الطائفتين ويمتحن الحقّ بينهما.
من هذا الشرح المبسّط، ندرك أنّ الوسطيّة منهج حياة، وتربية مستمرة، وتحكيم للعقل الرشيد الذي يدعو إلى التوازن والإعتدال بين الدين والدنيا، كما بين المثالية والمادية، وبين حق الفرد وحريته من ناحية، وحق الجماعة وحرية الآخرين من ناحية أخرى، فلا يطغى طرف على طرف، ولا جهة على أخرى.
والوسطيّة في الممارسة تكون في الإلتزام بالأصول والثوابت، إلتزاماً لا لبس فيه ولا غموض، وتقبل الإختلاف في الفروع والجزئيات، فلا وسطيّة في الإيمان والعقيدة، ولا وسطية في الصدق والعدالة....
والوسطيّة تكون في الفكر، وفي نمط التفكير. حيث يقول المفكر توماس كول: إن التفكير نوعان: نوع دائري، وهو الذي يدور في حلقة واحدة، ونوع منفتح يفسح المجال لإستنباط معارفَ جديدة. والوسطيّة في الفكر هي التفكير المنفتح الذي يفسح المجال لإستنباط المعارف الكونية والآداب السلوكية ويرسي العلاقات الإجتماعية السليمة، ومكارم الأخلاق الحميدة، وهو التفكير الذي يؤمن بالتعدّديّة المجتمعيّة، وحقّ الإختلاف، ويدعو إلى الحوار والنقاش بالحسنى، بعيداً عن العصبيّة الذميمة. كما يؤمن بأن الحقيقة في هذه الأمور ليست حقيقة مطلقة، وإنما هي حقيقة نسبية مرتبطة بالزمان والمكان والظروف المحيطة بالمجتمع. وهي الحقيقة التي تولد في النقاش (كما يقول المثل الروسي) بين مختلف الأطراف. وبالتالي فإنّ هذا النمط من الفكر، يؤسس للتواصل الفكري السليم، المرتكز على العقل والعلم، ويرفض مخاطبة الغرائز وإثارة النعرات، لتكون الشهادة على الناس، - كما ورد في الآية الكريمة: "لتكونوا شهداء على الناس" – عن علمٍ ومعرفة، وعدلٍ ودراية، وحجةٍ وبرهان.
لا شكّ أنّ هذا النمط من الفكر الوسطيّ هو فعلُ إرادةٍ، ينطلق من الذات وينمو بفضل التربية والتهذيب المستمرين، وهو الذي يجب أن يكون دائماً رائد المتحاورين، وضابط الإيقاع بينهما، حتى يكون الحوار والتواصل بين مختلف الأطراف، بعيداً عن النفس وما تهوى، مرتكزاً على العقل والدليل "فالعقل يهدي صاحبه إلى الهدى ويردّه عن الضلال" كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الإختلاف والتعددية: لا شكّ أنّ الإختلاف الفكريّ والتعدديّة الثقافيّة هما مصدر قوّة وتقدّم، بعكس ما يظنّ البعضُ من أنّهما مصدر فتنةٍ وتشرذم، وذلك إذا أُحسن إستعمالهما في مناقشة الأمور، وتقريب وجهات النظر، على طريق محاكاة فكريّة راقية، وهذا ما يقود إلى تقريب الآراء وتسريع الوصول إلى العمل على طريق التقدم والإزدهار، مستندين في ذلك إلى الحكمة التي تقول: "نعمل في ما إتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما إختلفنا حوله".
أما إذا أُسيء التعامل مع التعدّديّة، كأن يكون المتحاور قد نشأ على تربية تلقينية، أو فكر مغلق، أو سياسة حزبية ضيقة، فإن ذلك يحول دون إنخراطه في حوارٍ علميٍّ راقٍ، وتواصلٍ معرفيّ شفاف، وهذا ما يَح̊رُمُ المجتمعَ من متعة التفاعل الإنساني. عند ذلك يصبح الإختلاف الفكريّ خلافاً تناحرياً يسعى فيه كل فريق إلى إلغاء الآخر، لأنه لا يشاركه العقيدة والفكر والممارسة.
تجدر الإشارة إلى أن التفاعل الإنساني، هو الذي يحوّل الصراع من أجل البقاء، إلى صراعٍ فكريٍّ منتجٍ ويبعث على تجدّد الحياة وخصبها، ويؤدّي إلى حركة مستمرّة وتقدم وإزدهار.
والإختلاف الفكري ليس حقاً مشروعاً وحسب، بل هو ضرورة وواقع، أساسه المعرفة وإحترام الآخر، مع الإقرار له بحرية الرأي والإختلاف. وهو دليل على التعدد في وجهات النظر، والمصادر والعقول والتحاليل والإستنتاجات. ورحم الله الإمام الشافعي القائل: "رأينا صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب".
أصول الحوار: الأمر الآخر في ثقافة الفكر الوسطي الذي يجب أن يراعيَه المتحاورون، هو أصول ومبادئ وأساليب وحدود الحوار. وكذلك تحديد الهدف من الحوار، الذي يجب أن يكون مشترَكاً بين المتحاورين. أما إذا إختلفت الأهداف، وإختلفت معها المبادئ والأساليب، فإن ذلك سيؤدي لا محالة إلى مزيد من الخلاف والتناحر بين الأفرقاء، وإلى مزيد من التناقضات والصراع بينهم وتأجيج الأحقاد والضفائن.
أما أساليب الحوار، فأهمها الحوار بالحسنى، يقول تعالى "أُدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة"، "وجادلهم بالتي هي أحسن". فإذا كانت الدعوة إلى الله تعالى يجب أن تكون بالحسنى، فكيف بالحوار مع الآخرين في أمور الدنيا؟، والجدال يجب أن يكون بالتي هي "أحسن"، أي أنّ على الإنسان أن يستعمل "أحسن" ما عنده من أسلوبٍ وحجةٍ، وبرهانٍ ودليلٍ، ليحاور به أخاه الإنسان. وهذا ما يوجب على المحاور حُس̊ن الإستعداد لتكون مادّته جيدة، وحواره ذو قيمة ومضمون. كما أن على المحاور أن يراعي المستوى العلمي عند المخاطَب والمتحاوَر معه. يقول الإمام عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه: "خاطبوا الناس على قدر عقولهم، أتحبون أن يُكذّبَ اللهُ ورسوله". ولا بأس في أن يستعمل المتحاور اللغة التصويرية أو التشبيهية، في توضيح الأمور، ليشدّ إليه مُحاورَه. كذلك، فإنَّ من الأهمية بمكانٍ، أن يتجاوب معه في أسلوبه، وأن يرتكزَ الحوارُ دائماً على العقل والمنطق، ويبتعد عن العصبيّة والتطرف.
كذلك فإنّ إنطلاق الحوار دائماً، يجب أن يكون من النقاط المتّفق عليها مع تقسيم مواضيع الحوار والتأكيد على النقاط التي تم التوافق عليها وإبقاء "شعرة معاوية" في النقاط التي لم يتم التوافق عليها، للمزيد من التمحيص وزيادة المعرفة فيها. كما لا يجوز إقفال الحوار بطريقة عشوائية أو يشعر أحد الفريقين بهزيمة منكرة. ولعل أفضل أنواع الحوار هو ما يفتح الباب دائماً أمام مواضيع وعناوين جديدة تستأهل البحث والحوار من جديد، دلالةً على حيويّة فكريّة وبحثاً لمزيد من نقاط التلاقي وعلى طريق إكتشاف المزيد من الحقائق العلمية.
أما في حدود الحوار، وخصوصاً في حوار الأديان، فيجب أن يكون ذلك بعيداً عن الأمور العقائدية التي تشكل لبّ الإيمان، والتسليم بها واجب شرعي، والتي تندرج في إطار العلاقة بين الإنسان وربّه. وأن تركّز في باقي الأمور الدينية على ما ينفع الإنسان في مجتمعه وفي عمارته للأرض.

ج – الإصلاح التعليمي:
لا شك أن إصلاح المجتمع مبني على إصلاح الفكر، وإصلاح الفكر يكون بإصلاح التعليم أولاً. ويرتكز إصلاح التعليم على أمورٍ أساسيّة هي المعلّم والإدارة والمنهج والوسائل. فالمعلم هو عصب العملية التعليمية برمّتها وهو الذي يزرع في نفس الناشئة حبَّ التعلم، وطَلَبَ العلم، والطريقَ إليه والإستزادة منه في كلّ وقتٍ وحين. والمعلّم الناجح هو الذي يقدّم أفضل ما لديه لتنشئة جيلٍ قادرٍ على مواصلة مسيرة الإبداع والإبتكار وإنتاج المعرفة، ويُخضِعُ نفسه دائماً لدوراتٍ تدريبيّةٍ على أحدث المناهج والوسائل. والمعلم الجيد يستطيع أن يُرمّم ويَج̊بُرَ ما قد يعتري البرامج والمناهج من قصورٍ أو ضعفٍ أو خلل، والمعلم السيّءُ لا يستطيع أن يوصل العلم والمعرفة إلى طلابه مهما كانت البرامج والمناهج التعليميّة متطوّرة ومتقدّمة وحديثة.
أما الإدارة التربوية فهي علمٌ قائمٌ بذاته، ويتطلب مهاراتٍ معينةً وتقنياتٍ حديثةً ويقوم بوضع البرامج لتحسين أداء الجهاز التعليمي بشكلٍ مستمر، ويشرف على تطبيق البرامج والمناهج الحديثة، ويراقب أداء المعلمين ويتعاون مع الأهالي لمعالجة مشاكل الطلاب، وتقديم أفضل ما يمكن لهم، ويتفاعل مع المجتمع المدني. كما على الإدارة التربوية أن تضع الخطة التطويرية المستمرة، وأن تكون أهداف هذه الخطة خاضعة لمبادئ SMART (قابلة للوصف والقياس والتحقيق، واقعية ومحددة بالوقت).
أما البرامج والمناهج، فيجب أن تكون ديناميكيّة الحركة والتطور، ذلك أنّ التقدّم العلميّ، لا بدّ وأن ينعكس على حجم هذه البرامج ومحتواها وفحواها، لجهة الزيادة أو الحذف، كما تخضع المناهج للتغيير في طريقة التعليم، بما يساعد الطالب على زيادة معلوماته، وسعة معرفته وإدراكه.
ومما لا شك أنّ وسائط التكنولوجيا الحديثة تساعد كثيراً على تطبيق هذه البرامج والمناهج.
ويمكننا القول جازمين، بأنه لا يمكن لطلاب اليوم أن يقوموا بدورهم في بناء المستقبل إذا كان تعليمهم يتم بأدوات الماضي. خصوصاً، وأنّ هذه الوسائل في تطوّرٍ مستمرٍ ومتسارعٍ. وهي تساعد على تحقيق الكثير من التقدم والتوجيه والمشاركة وزيادة الإنتاجيّة والإبتكار سواء في التعليم، أم في التعلّم، أم في التواصل والتقييم وغير ذلك.
من ناحية أخرى فقد كان دور المعلم في الماضي يقوم على تقديم المعلومات للمتعلم وشرح المعطيات والبراهين، وإستخراج الحقائق وفق الكتاب المقرّر. أمّا اليوم، وبفضل ثورة المعلومات وتكنولوجيا الإتصالات، فقد أصبح دور المعلم مُسهِّلاً ومرشداً في العمليّة التعليميّة المستدامة. كما تنوعت مصادر المعلومات ووسائل إستخراجها، من خلال التساؤلات وعمليات التفتيش عنها. وأصبح لازماً على المتعلّم، بالإضافة إلى معرفة الوصول إليها، أن يتقن تحليلها والتمييز بينها والحكم عليها والإستفادة منها وفق حاجاته وبرامجه التطويرية.
من ناحية أخرى دعا القرآن الكريم إلى التزوّد بالعلم، دعوة مفتوحة لكل عمرٍ وعصرٍ ومصر، وذلك في قوله تعالى: "وقل رب زدني علماً". وقد إشتهرت عند المسلمين الحكمة التي تقول "طلب العلم من المهد إلى اللحد" حتى ظنها بعضهم حديثاً نبويّاً. وكان الإمام أحمد بن حنبل يقول: "مع المحبرة إلى المقبرة". وسئل أحد الحكماء عن حدّ التعلّم فقال: "إن حدّ التعلّم هو حدّ الحياة" ومن حكم عبد الله بن المبارك، قوله "لا يزال المرءُ عالماً ما طلب العلم فإذا ظنّ أنّه عَلِمَ فقد جهل". وكان عليّ بن أبي طالب يقول: "الإعجاب يمنع من الإزدياد". وإذا كانت تلك خاصيّة التعلّم عند العرب في عصر الحضارة الإسلامية، فإن هذه الخاصيّة هي أكثر يسراً وسهولةً في هذه الأيام بفضل ما توصّلت إليه التكنولوجيا الحديثة من شبكات المعارف المتوفرة على الإنترنت، والتي تضع العالَم وما توصّل إليه الباحثون في جميع المجالات العلمية بين يدي طالب العلم. وليس عليه سوى أن يطّلع إلى ما توصل إليه الآخرون، ويمحّصه ويدقّق فيه، لينطلق منه إلى التطوير والإبداع بما أوتي إلى ذلك من سبيل.
وفي سياق آخر تجدر الإشارة إلى العلاقة الوثيقة بين التعليم والديمقراطية، إذ لا يمكن الحديث عن تعليمٍ حقيقيّ فاعلٍ ومؤثّرٍ في المجتمع، ما لم يساهم هذا التعليم في بناء شخصية الإنسان المنتج والمشارك، وفي غياب الحريات العامة والخاصة، والمساواة بين مختلف شرائح المجتمع وتكافؤ الفرص. كما لا يمكن الحديث عن الديقراطية في غياب تعليمٍ حقيقي، يتّسم بالجودة ويساعد على الإبداع والإبتكار. ذلك أن التعليم هو إحدى الأدوات الرئيسة في بناء الحياة الديمقراطية. فالقيم والسلوك والممارسات السائدة في أي مجتمع، مُكتسبة من عملية التنشئة التي تضطلع بها المؤسسات المختلفة وفي الصدارة منها قنوات التعليم المختلفة. فهذه القيم والسلوك والممارسات إنما تمثّل اللبنة الأولى لعملية التنشئة السياسية التي تحدّد التوجهات والآراء المستقبلية حيال المجتمع والبيئة والوطن، كما أنها ترسم أطر التعاون والمشاركة والإنتماء، وتنمّي الشعور بالمسؤولية والثقة بالنفس والعمل بروح الفريق.

الخاتمة:
لا شك أنّ الهدف من مواقع التواصل الإجتماعي والمشاركة فيها يجب أن يكون تحقيق السلام، وتنمية السلوك والإلتزام بالقيم، والمزيد من العلم بما ينفع الإنسانية عموماً ويسهم في عمارة الأرض.
إنّ المشاركة في مواقع التواصل الإجتماعي اليوم ومع تطور إستخدام التكنولوجيا الحديثة، وفي حوار الأديان تحديداً قد أصبحت أكثر مرونة وأسهل طريقاً إلى عقول الشباب الذين يشكلون القوة الرئيسة في التغيير المنشود، نحو مجتمع ٍ مؤمنٍ وذو أخلاق فاضلة، إذا تمت مراعاة ما ذكرناه آنفاً، وخصوصاً ما له صلة بأخلاقيات الإختلاف والحوار. فالدين لله تعالى، "وهذه الأخلاقيات يجب أن تبنى – كما تقول سمو الشيخة موزة في خطابها في المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن – على إدراك أنّ الله سبحانه وتعالى ربّ الجميع، وليس حكراً على أحد. وأن التشدّد الذي يظهر بوضوح في الكثير من الديانات في العالم هو إنحراف عن القيم الأساسية لتقاليدنا الدينية المشتركة".
وهل يمكن تفسير حركات العنف، المنتشرة في مختلف دول العالم، إلا على أساس أنها نتيجة لجموح الغريزة والعنصرية والتطرف؟!.
يبقى أن نضيف أن السمة الغالبة للمشاركين في مواقع التواصل الإجتماعي هم فئة الشباب، الذين يشكلون في الغالب، قوة التغيير الرئيسة في المجتمع ومرحلة الحيوية والنشاط والعطاء. فهي المرحلة الأهم في مراحل عمر الإنسان.
لذلك كلّه
علينا أن نعمل جاهدين:
- لتكون مواقع التواصل الإجتماعي، باباً من أبواب التواصي بالحقّ، والتواصي بالصبر، وباباً من أبواب الدعوة إلى الله، بالحكمة والموعظة الحسنة، وإلى التحلّي بالأخلاق الحميدة والتخلي عن الموبقات والفساد والإفساد.
- لتكون مواقع التواصل الإجتماعي، باباً من أبواب الدعوة إلى العمل الجماعي الذي يجعلنا نرتبط ببعضنا بعضاً، إرتباطاً أخوياً إنسانياً، فنتحابّ في الله، ونتحاور فيما ينفعنا، وينفع الإنسانية جمعاء، ونتفاهم حول قضايا السلام، ونبذ التطرف، ورفض الإرهاب.
- لتكون مواقع التواصل الإجتماعي، دعوة متواصلة لقبول الآخر، شريكاً كاملاً في العيش الواحد على ظهر الأرض، نعمل سوية على عمارتها وحضارتها، ورقيّ إنسانها وقيمه، ورَغَدِ عيشه.
- لتكون مواقع التواصل الإجتماعي وسيلة لنشر المعارف الكونية والعلوم الإنسانية، مع مراعاة خصوصيات البيئة والتاريخ والتقاليد.

فهل نحن قادرون على إيجاد وإبتكار هكذا مواقع؟!
شكراً لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

   
يفتتح مؤتمر الدوحة التاسع لحوار الأديان أعماله الاثنين 24 أكتوبر في فندق الشيراتون في الدوحة، قطر، باشتراك أكثر من مئتي شخصية دينية و أكاديمية من خمسة و خمسين بلداً.
يتطرق المؤتمر هذه السنة إلى موضوع تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الحوار بين الأديان، عبر جلسات وورش عمل تمتد لثلاث أيام متواصلة.
يعقد مؤتمر الدوحة التاسع لحوار الأديان بإشراف مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان و اللجنة الدائمة لتنظيم المؤتمرات
.
تنبيهات بريدية  
للحصول على آخر الأخبار والتحديثات من فضلك أدخل عنوان بريدك الإلكتروني